للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [٤ \ ٤٧] ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالتَّعْرِيضَ بِأَصْحَابِ السَّبْتِ أَلْصَقُ بِهِمْ.

فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْوُجُوهُ هُنَا هِيَ سُكْنَاهُمْ بِالْمَدِينَةِ، وَطَمْسُهَا تَغَيُّرُ مَعَالِمِهَا، وَرَدُّهُمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ، أَيْ: إِلَى بِلَادِ الشَّامِ الَّتِي جَاءُوا مِنْهَا أَوَّلًا حِينَمَا خَرَجُوا مِنَ الشَّامِ إِلَى الْمَدِينَةِ، انْتِظَارًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَكَاهُ أَبُو حَيَّانَ وَحَسَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا.

أَتَى: تَأْتِي لِعِدَّةِ مَعَانٍ، مِنْهَا بِمَعْنَى الْمَجِيءِ، وَمِنْهَا بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ، وَمِنْهَا بِمَعْنَى الْمُدَاهَمَةِ.

وَقَدْ تَوَهَّمَ الرَّازِيُّ أَنَّهَا مِنْ بَابِ الصِّفَاتِ، فَقَالَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ، لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِاتِّفَاقِ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَابَ التَّأْوِيلِ مَفْتُوحٌ، وَأَنَّ صَرْفَ الْآيَاتِ عَنْ ظَوَاهِرِهَا بِمُقْتَضَى الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ جَائِزٌ. اهـ.

وَهَذَا مِنْهُ عَلَى مَبْدَئِهِ فِي تَأْوِيلِ آيَاتِ الصِّفَاتِ، وَيَكْفِي لِرَدِّهِ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقْتَضَى الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَقْلَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي بَابِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا فَوْقَ مُسْتَوَيَاتِ الْعُقُولِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [٤٢ \ ١١] ، وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

أَمَّا مَعْنَى الْآيَةِ فَإِنَّ سِيَاقَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا السِّيَاقِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الصِّفَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ [١٦ \ ٢٦] ، أَيْ هَدَمَهُ وَاقْتَلَعَهُ مِنَ قَوَاعِدِهِ، وَنَظِيرِهِ: أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا [١٠ \ ٢٤] ، وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [١٣ \ ٤١] ، وَقَوْلِهِ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [٢١ \ ٤٤] .

وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْعَدْوَى: أَنِّي قُلْتُ أُتِيتَ أَيْ دُهِيتَ، وَتَغَيَّرَ عَلَيْكَ حِسُّكُ فَتَوَهَّمْتَ مَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ صَحِيحًا.

وَيُقَالُ: أُتِيَ فُلَانٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ التَّاءِ إِذَا أَظَلَّ عَلَيْهِ الْعَدُّوُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مِنْ مَأْمَنِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>