للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الْأُصُولِيُّونَ يُخَصِّصُونَ بِهَا عُمُومَ الْكِتَابِ، وَيُقَيِّدُونَ مُطْلَقَهُ.

فَمِنَ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، أَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالْجَرَادُ وَالْحُوتُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فَالْكَبِدُ وَالطُّحَالُ» فَخَصَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [٥ \ ٣] ، وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا» ، وَخُصَّ بِهَا عُمُومُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [٤ \ ٢٤] ، وَنَحْوَهُ كَثِيرٌ.

وَمِنَ الثَّانِي: قَطْعُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَ السَّارِقِ مِنَ الْكُوعِ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقِ: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [٥ \ ٣٨] ، وَكَذَلِكَ مَسْحُ الْكَفَّيْنِ فِي التَّيَمُّمِ تَقْيِيدًا أَوْ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [٥ \ ٦] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَكَذَلِكَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ كَبَيَانِ مُجْمَلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [٢ \ ٤٣] ، فَلَمْ يُبَيِّنْ عَدَدَ الرَّكَعَاتِ لِكُلِّ وَقْتٍ، وَلَا كَيْفِيَّةَ الْأَدَاءِ فَصَلَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَحَجَّ وَقَالَ لَهُمْ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» .

وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ السُّنَةَ أَقْوَالٌ، وَأَفْعَالٌ، وَتَقْرِيرٌ، وَقَدْ أَلْزَمَ الْعَمَلَ بِالْأَفْعَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [٣٣ \ ٢١] ، وَالتَّأَسِّي يَشْمَلُ الْقَوْلَ وَالْفِعْلَ، وَلَكِنَّهُ فِي الْفِعْلِ أَقْوَى، وَالتَّقْرِيرُ مُنْدَرِجٌ فِي الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ تَرْكُ الْإِنْكَارِ عَلَى أَمْرٍ مَا، وَالتَّرْكُ فِعْلٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ:

وَالتَّرْكُ فِعْلٌ فِي صَحِيحِ الْمَذْهَبِ

تَنْبِيهٌ

تَنْقَسِمُ أَفْعَالُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عِدَّةِ أَقْسَامٍ:

أَوَّلًا: مَا كَانَ يَفْعَلُهُ بِمُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ، وَهُوَ مُتَطَلَّبَاتُ الْحَيَاةِ مِنْ أَكْلٍ، وَشُرْبٍ، وَلُبْسٍ، وَنَوْمٍ، فَهَذَا كُلُّهُ يَفْعَلُهُ اسْتِجَابَةً لِمُتَطَلَّبَاتِ الْحَيَاةِ، وَكَانَ يَفْعَلُهُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَيَفْعَلُهُ كُلُّ إِنْسَانٍ، فَهُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَشْرِيعٌ جَدِيدٌ، وَلَكِنْ صُورَةُ الْفِعْلِ، وَكَيْفِيَّتُهُ كَكَوْنِ الْأَكْلِ وَالشَّرَابِ بِالْيَمِينِ إِلَخْ، وَكَوْنِهِ مِنْ أَمَامِ الْآكِلِ، فَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ التَّأَسِّي بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ نَوْعُ الْمَأْكُولِ أَوْ تَرْكُهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِمَانِعٍ كَعَدَمِ أَكْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلضَّبِّ وَالْبُقُولِ الْمَطْبُوخَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ، فَالْأَوَّلُ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَرْضِ قَوْمِهِ فَكَانَ يَعَافُهُ، وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ يُنَاجِي مَنْ لَا نُنَاجِي، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْمَرَاقِي:

وَفِعْلُهُ الْمَرْكُوزُ فِي الْجِبِلَّةِ ... كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَلَيْسَ مُلْهٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>