للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِذَا أَرَادُوا شِوَاءَ شَاةٍ طَلَوْهَا مِنَ الْخَارِجِ بِالْعَجِينِ حِفْظًا لَهَا مِنْ رَمَادِ الْجَمْرِ - فَقَالَتْ لِبَرِيرَةَ: كُلِي، هَذَا خَيْرٌ مِنْ قُرْصِكِ.

وَكَمَا فَعَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَصَدَّقَ بِالْعِيرِ وَمَا تَحْمِلُهُ مِنْ تِجَارَةٍ حِينَ قَدِمَتْ، وَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَخَرَجَ النَّاسُ إِلَيْهَا.

فَعَلَى هَذَا كَانَ مُجْتَمَعُ الْمَدِينَةِ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُجْتَمَعًا مُتَكَافِلًا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَقَدْ نَوَّهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِصَّةِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ بِفَضْلِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ» .

وَمِنْ بَعْدِهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: وَأُوصِي الْخَلِيفَةَ بَعْدِي بِالْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ وَيَحْفَظَ لَهُمْ كَرَامَتَهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ، مِنْ قَبْلُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْ مُسِيئِهِمْ.

ثُمَّ كَانَ هَذَا خُلُقَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ جَمِيعًا، كَمَا وَقَعَ فِي وَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ، قَالَ حُذَيْفَةُ الْعَدَوِيِّ: انْطَلَقْتُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ أَطْلُبُ ابْنَ عَمٍّ لِي، وَمَعِي شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ وَأَنَا أَقُولُ: إِنْ كَانَ بِهِ رَمَقٌ سَقَيْتُهُ، فَإِذَا أَنَا بِهِ فَقُلْتُ لَهُ: أَسْقِيكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ يَقُولُ: آهٍ آهٍ، فَأَشَارَ إِلَيَّ ابْنُ عَمِّي أَنِ انْطَلِقْ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ، فَقُلْتُ أَسْقِيكَ؟ فَأَشَارَ أَنْ نَعَمْ، فَسَمِعَ آخَرَ يَقُولُ آهٍ آهٍ، فَأَشَارَ هِشَامُ أَنِ انْطَلِقْ إِلَيْهِ فَجِئْتُهُ، فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، فَرَجَعْتُ إِلَى هِشَامٍ، فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، فَرَجَعْتُ إِلَى ابْنِ عَمِّي فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ.

وَكَانَ مَنْهَجُ الْخَوَاصِّ مِنْ بَعْدِهِمْ، كَمَا نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَبِي يَزِيدِ الْبِسْطَامِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا غَلَبَنِي أَحَدٌ مَا غَلَبَنِي شَابٌّ مِنْ أَهْلِ بَلْخٍ، قَدِمَ عَلَيْنَا حَاجًّا فَقَالَ لِي: مَا حَدُّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ؟ فَقُلْتُ: إِنْ وَجَدْنَا أَكَلْنَا، وَإِنْ فَقَدْنَا صَبَرْنَا، فَقَالَ: هَكَذَا كِلَابُ بَلْخٍ عِنْدَنَا، فَقُلْتُ: وَمَا حَدُّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ؟ قَالَ: إِنْ فَقَدْنَا شَكَرْنَا وَإِنْ وَجَدْنَا آثَرْنَا.

وَفِي قَوْلِهِ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، الْإِيثَارُ عَلَى النَّفْسِ: تَقْدِيمُ الْغَيْرِ عَلَيْهَا مَعَ الْحَاجَةِ، وَالْخَصَاصَةُ: الَّتِي تَخْتَلُّ بِهَا الْحَالُ، وَأَصْلُهَا مِنَ الِاخْتِصَاصِ، وَهُوَ الِانْفِرَادُ فِي الْأَمْرِ، فَالْخَصَاصَةُ الِانْفِرَادُ بِالْحَاجَةِ أَيْ: وَلَوْ كَانَ بِهِمْ فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

أَمَّا الرَّبِيعُ إِذَا تَكُونُ خَصَاصَةٌ ... عَاشَ السَّقِيمُ بِهِ وَأَثْرَى الْمُقْتِرَ

<<  <  ج: ص:  >  >>