وَهَلْ يَصِحُّ الْإِيثَارُ مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ، وَلَوْ كَانَ ذَا عِيَالٍ أَوْ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ غَيْرِهِ أَمْ لَا؟ وَمَا عَلَاقَتُهُ مَعَ قَوْلِهِ: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [٢ \ ٢١٩] ؟ .
وَالْجَوَابُ عَلَى هَذَا كُلِّهِ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [٢ \ ٣] ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ عَبَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِمَنِ التَّبْعِيضِيةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُنْفِقُ لِوَجْهِ اللَّهِ بَعْضَ مَا لَهُ كُلِّهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْقَدْرَ الَّذِي يَنْبَغِي إِنْفَاقُهُ، وَالَّذِي يَنْبَغِي إِمْسَاكُهُ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَنْبَغِي إِنْفَاقُهُ هُوَ الزَّائِدُ عَلَى الْحَاجَةِ، وَسَدِّ الْخَلَّةِ الَّتِي لَابُدَّ مِنْهَا، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ، وَالْمُرَادُ بِالْعَفْوِ الزَّائِدُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ الَّتِي لَابُدَّ مِنْهَا عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَاتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى عَفَوْا [٧ \ ٩٥] أَيْ: كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْعَفْوُ نَقِيضُ الْجُهْدِ، وَهُوَ أَنْ يُنْفِقَ مَا لَا يَبْلُغُ إِنْفَاقُهُ مِنْهُ الْجُهْدَ وَاسْتِفْرَاغَ الْوُسْعِ.
وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي ... وَلَا تَنْطِقِي فِي سَوْرَتِي حِينَ أَغْضَبُ
وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا، وَبَقِيَّةُ الْأَقْوَالِ ضَعِيفَةٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [١٧ \ ٢٩] ، فَنَهَاهُ عَنِ الْبُخْلِ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ، وَنَهَاهُ عَنِ الْإِسْرَافِ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ، فَيَتَعَيَّنُ الْوَسَطُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [٢٥ \ ٦٧] .
فَيَجِبُ عَلَى الْمُنْفِقِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْجُودِ وَالتَّبْذِيرِ، وَبَيْنَ الْبُخْلِ وَالْإِقْتَارِ، فَالْجُودُ غَيْرُ التَّبْذِيرِ، وَالِاقْتِصَادُ غَيْرُ الْبُخْلِ فَالْمَنْعُ فِي مَحَلِّ الْإِعْطَاءِ مَذْمُومٌ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ، وَالْإِعْطَاءُ فِي مَحَلِّ الْمَنْعِ مَذْمُومٌ أَيْضًا، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute