لِلتَّوَثُّقِ مِنْ هِجْرَتِهِنَّ بِامْتِحَانِهِنَّ لِيُعْلَمَ إِيمَانُهُنَّ، وَيُرَشِّحُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ، وَفِي حَقِّ الرِّجَالِ: أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [٥٩ \ ٨] ، وَكَذَلِكَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ هِجْرَةَ الْمُؤْمِنَاتِ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهَا حَقٌّ مَعَ طَرَفٍ آخَرَ، وَهُوَ الزَّوْجُ فَيَفْسَخُ نِكَاحَهَا مِنْهُ، وَيُعَوَّضُ هُوَ عَمَّا أَنْفَقَ عَلَيْهَا، وَإِسْقَاطُ حَقِّهِ فِي النِّكَاحِ وَإِيجَابُ حَقِّهِ فِي الْعِوَضِ قَضَايَا حُقُوقِيَّةٌ، تَتَطَلَّبُ إِثْبَاتًا بِخِلَافِ هِجْرَةِ الرِّجَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ بَعْدَ الِامْتِحَانِ وَالْعِلْمِ بِأَنَّهُنَّ مُؤْمِنَاتٌ لَا يَنْبَغِي إِرْجَاعُهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّهُمْ يُؤْذُونَهُنَّ إِنْ رَجَعْنَ إِلَيْهِمْ، فَلِأَيِّ شَيْءٍ يَأْتِي النَّصُّ عَلَيْهِ؟
قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخَصِّصَةٌ لِمَا جَاءَ فِي مُعَاهَدَةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَالَّتِي كَانَ فِيهَا مَنْ جَاءَ مِنَ الْكُفَّارِ مُسْلِمًا إِلَى الْمُسْلِمِينَ رَدُّوهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَمَنْ جَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَافِرًا لِلْمُشْرِكِينَ لَا يَرُدُّونَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأُخْرِجَتِ النِّسَاءُ مِنَ الْمُعَاهَدَةِ وَأَبْقَتِ الرِّجَالَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ، وَتَخْصِيصُ السُّنَةِ بِالْقُرْآنِ، وَتَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَةِ مَعْلُومٌ، وَقَدْ بَيَّنَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِي مُذَكِّرَةِ الْأُصُولِ، وَذَكَرَ الْقَاعِدَةَ مِنْ مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَخُصِّصَ الْكِتَابُ وَالْحَدِيثُ بِهِ ... أَوْ بِالْحَدِيثِ مُطْلَقًا فَلْتَنْتَبِهْ
وَمِمَّا ذَكَرَهُ لِأَمْثِلَةِ تَخْصِيصِ السُّنَةِ بِالْكِتَابِ قَوْلُهُ صلّى الله عليه وسلم: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ» ، أَيْ: مُحَرَّمٌ، جَاءَ تَخْصِيصُ هَذَا الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا [١٦ \ ٨٠] أَيْ: لَيْسَ مُحَرَّمًا.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالسُّنَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [٥ \ ٣] جَاءَ تَخْصِيصُ هَذَا الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ، وَدَمَانِ، أَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالْجَرَادُ وَالْحُوتُ» الْحَدِيثَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: جَاءَتْ سُبَيْعَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْكِتَابِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحُدَيْبِيَةِ بَعْدُ، فَأَقْبَلَ زَوْجُهَا وَكَانَ كَافِرًا، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ ارْدُدْ عَلَيَّ امْرَأَتِي فَإِنَّكَ شَرَطْتَ ذَلِكَ، وَهَذِهِ طِينَةُ الْكِتَابِ لَمْ تَجِفَّ بَعْدُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ مُخَصِّصَةً لِلْمُعَاهَدَةِ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ لَمْ يَدْخُلْنَ فِيهَا ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا كَانَتْ فِي حَقِّ الرِّجَالِ فَقَطْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute