وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ جَاءَتْ فَارَّةً مِنْ زَوْجِهَا عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمَعَهَا أَخَوَاهَا عُمَارَةُ وَالْوَلِيدُ، فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَوَيْهَا وَحَبَسَهَا، فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُدَّهَا عَلَيْنَا لِلشَّرْطِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ الشَّرْطُ فِي الرِّجَالِ لَا فِي النِّسَاءِ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّهَا مُخَصِّصَةٌ لِمُعَاهَدَةِ الْهُدْنَةِ، وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ الْأَمْثِلَةِ لِتَخْصِيصِ السُّنَةِ بِالْقُرْآنِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا مُخَصِّصَةٌ عَنْ عُرْوَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَالسُّدِّيِّ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُخَصِّصَةٌ أَمْرَانِ مَذْكُورَانِ فِي الْآيَةِ:
الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّهَا أَحْدَثَتْ حُكْمًا جَدِيدًا فِي حَقِّهِنَّ وَهُوَ عَدَمُ الْحِلِّيَةِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ، فَلَا مَحَلَّ لِإِرْجَاعِهِنَّ، وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ مُعَاهَدَةِ الْهُدْنَةِ مَعَ هَذَا الْحُكْمِ فَخَرَجْنَ مِنْهَا وَبَقِيَ الرِّجَالُ.
وَالثَّانِي مِنْهُمَا: أَنَّهَا جَعَلَتْ لِلْأَزْوَاجِ حَقَّ الْمُعَاوَضَةِ عَلَى مَا أَنْفَقُوا عَلَيْهِنَّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنَّ دَاخِلَاتٍ أَوَّلًا لَمَا كَانَ طَلَبُ الْمُعَاوَضَةِ مُلْزِمًا، وَلَكِنَّهُ صَارَ مُلْزِمًا، وَمُوجِبُ إِلْزَامِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَمْلِكُونَ مَنْعَهُنَّ مِنَ الْخُرُوجِ بِمُقْتَضَى الْمُعَاهَدَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِذَا خَرَجْنَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْأَزْوَاجِ كُنَّ كَمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ فَلَزِمَهُنَّ الْعِوَضُ الْمَذْكُورُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ، فِيهَا تَحْرِيمُ الْمُؤْمِنَاتِ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّحْرِيمَ بِالْهِجْرَةِ لَا بِالْإِسْلَامِ قَبْلَهَا، وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ وَهَاجَرَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بَقِيَتِ الْعِصْمَةُ إِلَى نِهَايَةِ الْعُدَّةِ، فَإِنْ هَاجَرَ الطَّرَفُ الْآخَرُ فِيهَا، فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا الْأَوَّلِ.
وَهُنَا مَبْحَثُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ.
وَقَدْ كَثُرَ الْخِلَافُ فِي أَمْرِ رَدِّهَا إِلَيْهِ هَلْ كَانَ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، أَوْ جَدَّدَ لَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقْدًا جَدِيدًا، وَمِنْ أَسْبَابِ كَثْرَةِ الْخِلَافِ الرَّبْطُ بَيْنَ تَارِيخِ إِسْلَامِهَا وَتَارِيخِ إِسْلَامِهِ، وَبَيْنَهُمَا سِتُّ سَنَوَاتٍ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ لَمْ يَقَعْ تَحْرِيمٌ بَيْنَ مُسْلِمَةٍ وَكَافِرٍ، وَنُزُولُهَا بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَإِسْلَامُهَا كَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى عَدَمِ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَهَذَا يُوَافِقُ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَنَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ قَوْلًا، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَةَ كَانَتْ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَتْ فَسَخَتْ نِكَاحَهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute