للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْكِتَابِ) .

فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةَ وَارِدَةٌ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، وَالْأَخْبَارُ لَا يَدْخُلُهَا النَّسْخُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ:

فَالْجَوَابُ: أَنَّ النَّسْخَ وَارِدٌ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ مِنْ إِبَاحَةِ الْخَمْرِ. الْإِبَاحَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ قَابِلٌ لِلنَّسْخِ ; فَلَيْسَ النَّسْخُ وَارِدًا عَلَى نَفْسِ الْخَبَرِ، بَلْ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْخَبَرِ ; كَمَا حَقَّقَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَرِزْقًا حَسَنًا [١٦ \ ٦٧] ، أَيِ: التَّمْرَ، وَالرُّطَبَ، وَالْعِنَبَ، وَالزَّبِيبَ، وَالْعَصِيرَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.

تَنْبِيهٌ آخَرُ.

اعْلَمْ: أَنَّ النَّبِيذَ الَّذِي يُسْكِرُ مِنْهُ الْكَثِيرُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشْرَبَ مِنْهُ الْقَلِيلُ الَّذِي لَا يُسْكِرُ لِقِلَّتِهِ. وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ.

فَمَنْ زَعَمَ جَوَازَ شُرْبِ الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ مِنْهُ كَالْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، فَقَطْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا ; لِأَنَّ مَا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ أَنَّهُ مُسْكِرٌ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» ، وَلَوْ حَاوَلَ الْخَصْمُ أَنْ يُنَازِعَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، فَزَعَمَ أَنَّ الْقَلِيلَ الَّذِي لَا يُسْكِرُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ اسْمُ الْإِسْكَارِ فَلَا يَلْزَمُ تَحْرِيمُهُ، قُلْنَا: صَرَّحَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» ، وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ لَا يُمْكِنُ مَعَهُ كَلَامٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ الْفَرَقُ مِنْهُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ» ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَلِأَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِثْلُهُ سَوَاءٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ. وَكَذَا لِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ. وَكَذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْإِمَامِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ» ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهُ قَوْمٌ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَنْبِذُ النَّبِيذَ فَنَشْرَبُهُ عَلَى غَدَائِنَا وَعَشَائِنَا؟ فَقَالَ: «اشْرَبُوا فَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَكْسِرُهُ بِالْمَاءِ؟

<<  <  ج: ص:  >  >>