وَالْإِرْسَالِ كَمَا بَيَّنَّا فَتُرَاعَى الْأَهْلِيَّةُ عِنْدَ ذَلِكَ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَنِي شَرْطُ تَعْيِينِ الْمَحَلِّ بِالتَّسْمِيَةِ فِي الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَهُوَ بَيَانُ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الشَّرَائِطِ الَّتِي تَخُصُّ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ: يَرْجِعُ بَعْضُهَا إلَى الْمُذَكِّي، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ الذَّكَاةِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى آلَةِ الذَّكَاةِ.
أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُذَكِّي فَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا وَهَذَا فِي الذَّكَاةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ دُونَ الِاخْتِيَارِيَّةِ حَتَّى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا قَتَلَ صَيْدَ الْبَرِّ وَسَمَّى لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ لِحَقِّ الْإِحْرَامِ؛ لِقَوْلِهِ ﵎ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: ٩٥] أَيْ: وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ، وَقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: ١] مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ وَالصَّيْدُ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مِنْ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ إلَى آخِرِهِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى ﷾ الصَّيْدَ بِقَوْلِهِ ﵎ ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ [المائدة: ١] وَإِنَّمَا يُسْتَثْنَى الشَّيْءُ مِنْ الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ فَجُعِلَ مَذْكُورًا بِطَرِيقِ الْإِضْمَارِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْإِبَاحَةِ تَحْرِيمٌ فَكَانَ اصْطِيَادُ الْمُحْرِمِ مُحَرَّمًا فَكَانَ صَيْدُهُ مَيْتَةً كَصَيْدِ الْمَجُوسِيِّ سَوَاءٌ اصْطَادَ بِنَفْسِهِ أَوْ اُصْطِيدَ لَهُ بِأَمْرِهِ؛ لِأَنَّ مَا صِيدَ لَهُ بِأَمْرِهِ فَهُوَ صَيْدُهُ مَعْنًى وَتَحِلُّ ذَبِيحَةُ الْمُسْتَأْنَسِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ خُصَّ بِالصَّيْدِ فَبَقِيَ غَيْرُهُ عَلَى عُمُومِ الْإِبَاحَةِ، وَيَحِلُّ لَهُ صَيْدُ الْبَحْرِ لِقَوْلِهِ ﵎ ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ﴾ [المائدة: ٩٦] وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعْ إلَى مَحَلِّ الذَّكَاةِ فَمِنْهَا تَعْيِينُ الْمَحَلِّ بِالتَّسْمِيَةِ فِي الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الذَّكَاةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ وَهِيَ الرَّمْيُ وَالْإِرْسَالُ إلَى الصَّيْدِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ ﵎ عَلَى الذَّبِيحِ لِمَا تَلَوْنَا مِنْ الْآيَاتِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِتَعْيِينِ الذَّبِيحِ بِالتَّسْمِيَةِ وَلِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ ﵎ لَمَّا كَانَ وَاجِبًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا، وَالتَّعْيِينُ فِي الصَّيْدِ لَيْسَ بِمَقْدُورٍ؛ لِأَنَّ الصَّائِدَ قَدْ يَرْمِي وَيُرْسِلُ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الصَّيْدِ وَقَدْ يَرْمِي وَيُرْسِلُ عَلَى حِسِّ الصَّيْدِ فَلَا يَكُونُ التَّعْيِينُ وَاجِبًا وَالْمُسْتَأْمَنُ مَقْدُورٌ فَيَكُونُ وَاجِبًا.
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا ذَبَحَ شَاةً وَسَمَّى ثُمَّ ذَبَحَ شَاةً أُخْرَى يَظُنُّ أَنَّ التَّسْمِيَةَ الْأُولَى تُجْزِي عَنْهُمَا لَمْ تُؤْكَلْ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجَدِّدَ لِكُلِّ ذَبِيحَةٍ تَسْمِيَةً عَلَى حِدَةٍ، وَلَوْ رَمَى سَهْمًا فَقَتَلَ بِهِ مِنْ الصَّيْدِ اثْنَيْنِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا أَوْ بَازِيًا وَسَمَّى فَقَتَلَ مِنْ الصَّيْدِ اثْنَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَجِبُ عِنْدَ الْفِعْلِ وَهُوَ الذَّبْحُ فَإِذَا تَجَدَّدَ الْفِعْلُ تُجَدَّدُ التَّسْمِيَةُ، فَأَمَّا الرَّمْيُ وَالْإِرْسَالُ فَهُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولَيْنِ فَتُجْزِي فِيهِ تَسْمِيَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَوِزَانُ الصَّيْدِ مِنْ الْمُسْتَأْنَسِ مَا لَوْ أَضْجَعَ شَاتَيْنِ وَأَمَرَّ السِّكِّينَ عَلَيْهِمَا مَعًا أَنَّهُ تُجْزِئُ فِي ذَلِكَ تَسْمِيَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا فِي الصَّيْدِ فَإِنْ قِيلَ هَلَّا جَعَلَ ظَنَّهُ أَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الشَّاةِ الْأُولَى تُجْزِئُ عَنْ الثَّانِيَةِ عُذْرًا كَنِسْيَانِ التَّسْمِيَةِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ النِّسْيَانِ بَلْ مِنْ الْجَهْلِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَالْجَهْلُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ لَيْسَ بِعُذْرٍ وَالنِّسْيَانُ عُذْرٌ.
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْأَكْلَ لَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ فَأَكَلَ بَطَلَ صَوْمُهُ وَلَوْ أَكَلَ نَاسِيًا لَا يَبْطُلُ.
فَإِنْ نَظَرَ إلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّيْدِ فَرَمَى بِسَهْمٍ وَسَمَّى وَتَعَمَّدَهَا وَلَمْ يَتَعَمَّدْ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ فَأَصَابَ مِنْهَا صَيْدًا فَقَتَلَهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ وَكَذَلِكَ الْكَلْبُ وَالْبَازِي.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا نَظَرَ إلَى غَنَمِهِ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، ثُمَّ أَخَذَ وَاحِدَةً فَأَضْجَعَهَا وَذَبَحَهَا وَتَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَامِدًا وَظَنَّ أَنَّ تِلْكَ التَّسْمِيَةَ تُجْزِيهِ لَا تُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ عِنْدَ الذَّبْحِ وَالشَّرْطُ هُوَ التَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَذَلِكَ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ نَفْسِهِ لَا عِنْدَ النَّظَرِ، وَتَعْيِينُ الذَّبِيحَةِ مَقْدُورٌ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ شَرْطًا وَتَعْيِينُ الصَّيْدِ بِالرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ مُتَعَذَّرٌ لِمَا بَيَّنَّا فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ شَرْطًا.
وَلَوْ رَمَى صَيْدًا بِعَيْنِهِ أَوْ أَرْسَلَ الْكَلْبَ أَوْ الْبَازِيَ عَلَى صَيْدٍ بِعَيْنِهِ فَأَخْطَأَ فَأَصَابَ غَيْرَهُ يُؤْكَلُ، وَكَذَا لَوْ رَمَى ظَبْيًا فَأَصَابَ طَيْرًا أَوْ أَرْسَلَ عَلَى ظَبْيٍ فَأَخَذَ طَيْرًا؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ فِي الصَّيْدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ.
(وَمِنْهَا) قِيَامُ أَصْلِ الْحَيَاةِ فِي الْمُسْتَأْمَنِ وَقْتَ الذَّبْحِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُكْتَفَى بِقِيَامِ أَصْلِ الْحَيَاةِ بَلْ تُعْتَبَرُ حَيَاةً مَقْدُورَةً كَالشَّاةِ الْمَرِيضَةِ وَالْوَقِيذَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَجَرِيحَةِ السَّبُعِ إذَا لَمْ يَبْقَ فِيهَا إلَّا حَيَاةٌ قَلِيلَةٌ عُرِفَ ذَلِكَ بِالصِّيَاحِ أَوْ بِتَحْرِيكِ الذَّنَبِ أَوْ طَرْفِ الْعَيْنِ أَوْ التَّنَفُّسِ وَأَمَّا خُرُوجُ الدَّمِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ إلَّا إذَا كَانَ يَخْرُجُ كَمَا يَخْرُجُ مِنْ الْحَيِّ الْمُطْلَقِ فَإِذَا ذَبَحَهَا وَفِيهَا قَلِيلُ حَيَاةٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا تُؤْكَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵁.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَعِيشُ مَعَ ذَلِكَ فَذَبَحَهَا لَا تُؤْكَلُ وَإِنْ كَانَ