للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدْ قُلْت فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ إنَّمَا يَلْبَسُهُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ إنِّي لَمْ أُكْسِكْهَا لِتَلْبِسَهَا وَفِي رِوَايَةٍ إنَّمَا أَعْطَيْتُك لِتَكْسُوَ بَعْضَ نِسَائِك» فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ خَرَجَ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ؟» قِيلَ نَعَمْ ثُمَّ نُسِخَ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ «لَبِسَ رَسُولُ اللَّهِ جُبَّةً حَرِيرًا أَهْدَاهَا لَهُ أُكَيْدِرُ دُومَةَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنْهِيَ عَنْهُ» كَذَا قَالَ أَنَسٌ وَهَذَا فِي غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ.

(وَأَمَّا) فِي حَالِ الْحَرْبِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُكْرَهُ لُبْسُ الْحَرِيرِ فِي حَالِ الْحَرْبِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ فِي حَالِ الْحَرْبِ ضَرُورَةٌ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى دَفْعِ ضَرَرِ السِّلَاحِ عَنْهُ وَالْحَرِيرُ أَدْفَعُ لَهُ وَأَهْيَبُ لِلْعَدُوِّ وَأَيْضًا فَرُخِّصَ لِلضَّرُورَةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إطْلَاقُ التَّحْرِيمِ الَّذِي رَوَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا.

وَمَا ذَكَرَاهُ مِنْ الضَّرُورَةِ يَنْدَفِعُ بِلُبْسِ مَا لُحْمَتُهُ حَرِيرٌ وَسَدَاهُ غَيْرُ حَرِيرٍ لِأَنَّ دَفْعَ ضَرَرِ السِّلَاحِ وَتَهَيُّبَ الْعَدُوِّ يَحْصُلُ بِهِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى لُبْسِ الْحَرِيرِ الْخَالِصِ فَلَا تَسْقُطُ الْحُرْمَةُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ فِي الْحُرْمَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ ذَكَرًا لِأَنَّ النَّبِيَّ أَدَارَ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى الذُّكُورَةِ بِقَوْلِهِ «هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي» إلَّا أَنَّ اللَّابِسَ إذَا كَانَ صَغِيرًا فَالْإِثْمُ عَلَى مَنْ أَلْبَسَهُ لَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّحْرِيمِ عَلَيْهِ كَمَا إذَا سُقِيَ خَمْرًا فَشَرِبَهَا كَانَ الْإِثْمُ عَلَى السَّاقِي لَا عَلَيْهِ كَذَا هَهُنَا هَذَا إذَا كَانَ كُلُّهُ حَرِيرًا وَهُوَ الْمُصْمَتُ فَإِنْ كَانَتْ لُحْمَتُهُ حَرِيرًا وَسَدَاهُ غَيْرُ حَرِيرٍ لَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ فِي حَالِ الْحَرْبِ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ضَرُورَةِ دَفْعِ مَضَرَّةِ السِّلَاحِ وَتَهَيُّبِ الْعَدُوِّ فَأَمَّا فِي غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ فَمَكْرُوهٌ لِانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ وَإِنْ كَانَ سَدَاهُ حَرِيرًا وَلُحْمَتُهُ غَيْرُ حَرِيرٍ لَا يُكْرَهُ فِي حَالِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا وَهَهُنَا نُكْتَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الثَّوْبَ يَصِيرُ ثَوْبًا لِلَّحْمَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِالنَّسْجِ.

وَالنَّسْجُ تَرْكِيبُ اللُّحْمَةِ بِالسَّدَى فَكَانَتْ اللُّحْمَةُ كَالْوَصْفِ الْأَخِيرِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ وَهَذِهِ النُّكْتَةُ تَقْتَضِي إبَاحَةَ لُبْسِ الثِّيَابِ الْعَتَّابِيِّ وَالنُّكْتَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ نُكْتَةُ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ أَنَّ السَّدَى إذَا كَانَ حَرِيرًا وَاللُّحْمَةُ غَيْرُ حَرِيرٍ يَصِيرُ السَّدَى مَسْتُورًا بِاللُّحْمَةِ فَأَشْبَهَ الْحَشْوَ وَهَذِهِ النُّكْتَةُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يُبَاحَ لُبْسُ الْعَتَّابِيِّ لِأَنَّ سَدَاهُ ظَاهِرٌ غَيْرُ مَسْتُورٍ وَالصَّحِيحُ هُوَ النُّكْتَةُ الْأُولَى لِأَنَّ رِوَايَةَ الْإِبَاحَةِ فِي لُبْسِ مُطْلَقِ ثَوْبٍ سَدَاهُ حَرِيرٌ وَلُحْمَتُهُ غَيْرُ حَرِيرٍ مَنْصُوصَةٌ فَتَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهَا فَلَا تُنَاسِبُهَا إلَّا النُّكْتَةُ الْأُولَى وَلَوْ جَعَلَ حَشْوَ الْقَبَاءِ حَرِيرًا أَوْ قَزًّا لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ مَسْتُورٌ بِالظِّهَارَةِ فَلَمْ يَحْصُلْ مَعْنَى التَّزَيُّنِ وَالتَّنَعُّمِ أَلَا يَرَى أَنَّ لَابِسَ هَذَا الثَّوْبِ لَا يُسَمَّى لَابِسَ الْحَرِيرِ وَالْقَزِّ وَلَوْ جَعَلَ الْحَرِيرَ بِطَانَةً يُكْرَهُ لِأَنَّهُ لَابِسُ الْحَرِيرِ حَقِيقَةً وَكَذَا مَعْنَى التَّنَعُّمِ حَاصِلٌ لِلتَّزَيُّنِ بِالْحَرِيرِ وَلُطْفِهِ.

هَذَا إذَا كَانَ الْحَرِيرُ كَثِيرًا فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا كَأَعْلَامِ الثِّيَابِ وَالْعَمَائِمِ قَدْرَ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ فَمَا دُونَهَا لَا يُكْرَهُ وَكَذَا الْعَلَمُ الْمَنْسُوجُ بِالذَّهَبِ لِأَنَّهُ تَابِعٌ وَالْعِبْرَةُ لِلْمَتْبُوعِ أَلَا تَرَى أَنَّ لَابِسَهُ لَا يُسَمَّى لَابِسَ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَكَذَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَعَمُّمِ الْعَمَائِمِ وَلُبْسِ الثِّيَابِ الْمُعَلَّمَةِ بِهَذَا الْقَدْرِ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَكَذَا الثَّوْبُ وَالْقَلَنْسُوَةُ الَّذِي جُعِلَ عَلَى أَطْرَافِهَا حَرِيرٌ لَا يُكْرَهُ إذَا كَانَ قَدْرَ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ فَمَا دُونَهَا لِمَا قُلْنَا.

وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ لَبِسَ فَرْوَةً وَعَلَى أَطْرَافِهَا حَرِيرٌ» وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَسَعُ ذَلِكَ فِي الْقَلَنْسُوَةِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ وَإِنَّمَا رَخَّصَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا كَانَ فِي عَرْضِ الثَّوْبِ وَذَكَرَ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ تِكَّةُ الدِّيبَاجِ وَالْإِبْرَيْسَمِ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُ الْحَرِيرِ مَقْصُودًا لَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ فَيُكْرَهُ وَإِنْ قَلَّ بِخِلَافِ الْعَلَمِ وَنَحْوِهِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ لُبْسِ الْحَرِيرِ.

(فَأَمَّا) حُكْمُ التَّوَسُّدِ بِهِ وَالْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهِ فَغَيْرُ مَكْرُوهٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَكْرُوهٌ (لَهُمَا) إطْلَاقُ التَّحْرِيمِ الَّذِي رَوَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ اللُّبْسِ وَغَيْرِهِ وَلِأَنَّ مَعْنَى التَّزَيُّنِ وَالتَّنَعُّمِ كَمَا يَحْصُلُ بِاللُّبْسِ يَحْصُلُ بِالتَّوَسُّدِ وَالْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى بِسَاطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ مُرْفَقَةٌ مِنْ حَرِيرٍ وَرُوِيَ أَنَّ أَنَسًا حَضَرَ وَلِيمَةً فَجَلَسَ عَلَى وِسَادَةِ حَرِيرٍ عَلَيْهَا طُيُورٌ فَدَلَّ فِعْلُهُ عَلَى رُخْصَةِ الْجُلُوسِ عَلَى الْحَرِيرِ وَعَلَى الْوِسَادَةِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي عَلَيْهَا صُورَةٌ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ التَّحْرِيمِ فِي الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ اللُّبْسِ فَيَكُونُ فِعْلُ الصَّحَابِيِّ مُبَيِّنًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ لَا مُخَالِفًا لَهُ وَالْقِيَاسُ بِاللُّبْسِ غَيْرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>