حَقٌّ، وَقِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْقِسْمَةِ وَهُوَ التَّمْيِيزُ إذْ هُوَ اسْمٌ لِلْفِعْلِ أَوْ لِمَالٍ حُكْمِيٍّ فِي الذِّمَّةِ بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَثَرُ الْقِسْمَةِ وَمَعْنَاهَا، بَلْ هُوَ إتْلَافٌ لِنَصِيبِهِ فَإِنْ قِيلَ: قِسْمَةُ الدَّيْنِ تَصَرُّفٌ فِي الدَّيْنِ وَالتَّأْخِيرُ لَيْسَ تَصَرُّفًا فِي الدَّيْنِ بَلْ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْإِسْقَاطِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّأْخِيرَ تَصَرُّفٌ فِي الدَّيْنِ وَالْمُطَالَبَةِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَغْيِيرَ الدَّيْنِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ قَبْلَهُ كَانَ عَلَى صِفَةٍ لَوْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ، وَبَعْدَ التَّأْخِيرِ لَا يَبْقَى لَهُ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ مَا دَامَ الْأَجَلُ قَائِمًا، ثُمَّ فُرِّعَ عَلَى قَوْلِهِمَا فَقَالَ: إذَا قَبَضَ الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يُؤَخِّرْ نَصِيبَهُ؛ لَمْ يَكُنْ لِلَّذِي أَخَّرَ أَنْ يُشْرِكَهُ فِيمَا قَبَضَ حَتَّى يَحِلَّ دَيْنُهُ، فَإِنْ حَلَّ دَيْنُهُ فَلَهُ أَنْ يُشْرِكَهُ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا ضَمِنَهُ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمُطَالَبَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ حَقٌّ فِي الْمَقْبُوضِ، فَإِذَا حَلَّ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ حَالًّا فَتَثْبُتُ لَهُ الشَّرِكَةُ، فَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ الْآخَرُ شَيْئًا حَتَّى حَلَّ دَيْنُ الَّذِي أَخَّرَ؛ عَادَ الْأَمْرُ إلَى مَا كَانَ فَمَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنْ شَيْءٍ يُشْرِكُهُ الْآخَرُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَمَّا حَلَّ فَقَدْ سَقَطَ الْأَجَلُ فَصَارَ كَمَا كَانَ قَبْلَ التَّأْجِيلِ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ عَلَى امْرَأَةٍ فَتَزَوَّجَهَا أَحَدُهُمَا عَلَى نَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ، فَقَدْ رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ حَقِّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
(وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ النِّكَاحَ أَوْجَبَ الْمَهْرَ فِي ذِمَّتِهِ وَلَهُ فِي ذِمَّتِهَا مِثْلُهُ فَصَارَ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَبَضَ نِصْفَ الدَّيْنِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ حَقِّهِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى مِنْهَا ثَوْبًا بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ.
(وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: أَنَّ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ مَا يَحْتَمِلُ الْمُشَارَكَةَ، وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ كَمَا لَوْ أَبْرَأَهَا عَنْ نَصِيبِهِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْغَرِيمَ بِنَصِيبِهِ فَإِنَّ شَرِيكَهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَتِهَا بَدَلٌ مَضْمُونٌ بِالْعَقْدِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ، وَكَذَا الَّذِي سَلَّمَ لَهُ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ قَابِلٌ لِلشَّرِكَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ أَحَدَ الطَّالِبَيْنِ إذَا شَجَّ الْمَطْلُوبَ مُوضِحَةً عَمْدًا فَصَالَحَهُ عَلَى حِصَّتِهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِشَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَا تُمْكِنُ الْمُشَارَكَةُ فِيهِ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ جِنَايَةِ عَمْدٍ لَيْسَ فِي مُقَابِلَتِهِ بَدَلٌ مَضْمُونٌ، فَلَمْ يُسَلِّمْ مَا تَصِحُّ الْمُشَارَكَةُ فِيهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.
وَأَمَّا إذَا اسْتَهْلَكَ أَحَدُ الطَّالِبَيْنِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَالًا، فَصَارَتْ قِيمَتُهُ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ أَوْ اقْتَرَضَ مِنْهُ شَيْئًا بِقَدْرِ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ فَلِشَرِيكِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ لِأَنَّ قَدْرَ الْقَرْضِ وَقِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ صَارَ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ، وَالِاقْتِصَاصُ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَصَارَ كَأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَلَوْ كَانَ وَجَبَ لِلْمَطْلُوبِ عَلَى أَحَدِ الطَّالِبَيْنِ دَيْنٌ بِسَبَبٍ قَبْلَ أَنْ يَجِبَ لَهُمَا عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَصَارَ مَا عَلَيْهِ قِصَاصًا بِمَا لِأَحَدِ الطَّالِبَيْنِ؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي سَقَطَ عَنْهُ الدَّيْنُ لِشَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى الدَّيْنَ بَلْ قَضَى دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ، إذْ الْأَصْلُ فِي الدَّيْنَيْنِ إذَا الْتَقَيَا قِصَاصًا أَنْ يَصِيرَ الْأَوَّلُ مَقْضِيًّا بِالثَّانِي؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الثَّانِي، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَوْفِيًا لِلدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُشَارَكَةُ، إذْ الْمُشَارَكَةُ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَوْفَى، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ لَوْ أَنَّ أَحَدَ الْغَرِيمَيْنِ اللَّذَيْنِ لَهُمَا الْمَالُ قَتَلَ عَبْدَ الْمَطْلُوبِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَصَالَحَهُ الْمَطْلُوبُ عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا، وَبَرِئَ مِنْ حِصَّةِ الْقَاتِلِ مِنْ الدَّيْنِ، وَكَانَ لِشَرِيكِ الْقَاتِلِ أَنْ يُشْرِكَهُ فَيَأْخُذَ مِنْهُ نِصْفَ الْخَمْسَمِائَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ الْغَرِيمَةَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مُرْسَلَةٍ، أَوْ اسْتَأْجَرَ الْغَرِيمَ بِخَمْسِمِائَةٍ مُرْسَلَةٍ، فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى نَفْسِ الدَّيْنِ أَوْ تَزَوَّجَ بِهِ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْعَقْدَ هُنَا وَهُوَ الصُّلْحُ وَالنِّكَاحُ وَقَعَ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْمُقَاصَّةَ؛ فَكَانَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مَعْنًى بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً، بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَلَى نَفْسِ الدَّيْنِ وَالتَّزَوُّجِ بِهِ فَإِنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ مَا وَقَعَ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ مُطْلَقًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ أُضِيفَ إلَى نَفْسِ الدَّيْنِ، فَلَمْ تَقَعْ الْمُقَاصَّةُ، وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ أَيْضًا مَا يَحْتَمِلُ الِاشْتِرَاكَ فِيهِ فَلَا يَرْجِعُ وَذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الْمَطْلُوبُ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَارِثُهُ وَتَرَك مَالًا لَيْسَ فِيهِ وَفَاءٌ اشْتَرَكَا بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ إلَى الْوَرَثَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء: ١١] رَتَّبَ الْمِيرَاثَ عَلَى الدَّيْنِ فَلَمْ يَنْتَقِلْ الْمِلْكُ إلَى الْوَارِثِ فَلَا يَسْقُطُ دَيْنُهُ، وَكَانَ دَيْنُ الْوَارِثِ وَالْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ وَلَوْ أُعْطِيَ الْمَطْلُوبُ لِأَحَدِهِمَا رَهْنًا بِحِصَّتِهِ فَهَلَكَ الرَّهْنُ عِنْدَهُ فَلِشَرِيكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ، وَبِهَلَاكِ الرَّهْنِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِلدَّيْنِ حُكْمًا فَكَانَ كَالِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً، وَلَوْ غَصَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute