للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَنْ التَّزَوُّجِ بِأُخْتِهَا وَعَنْ التَّزَوُّجِ بِأَرْبَعٍ سِوَاهَا فَكَانَ مُقَيَّدًا فَكَانَ مَحِلًّا لِإِضَافَةِ الْكِنَايَةِ الْمُبِينَةِ إلَيْهِ لِمَا أَنَّ الْإِبَانَةَ قَطْعُ الْوَصْلَةِ وَأَنَّهَا ثَابِتَةٌ مِنْ جَانِبِهِ كَذَا هَذَا، وَلَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ ﷿ ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١] أَمَرَ بِتَطْلِيقِهِنَّ وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ نَهْيٌ عَنْ تَرْكِهِ وَتَطْلِيقُ نَفْسِهِ تَرْكٌ لِتَطْلِيقِ امْرَأَتِهِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى نَفْسِهِ لَا إلَى امْرَأَتِهِ حَقِيقَةً فَيَكُونُ مَنْهِيًّا، وَالْمَنْهِيُّ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ، وَالتَّصَرُّفُ الَّذِي لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا وَهُوَ تَفْسِيرُ عَدَمِ الصِّحَّةِ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَهْتَزُّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» ، نَهَى عَنْ التَّطْلِيقِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ مُضَافًا إلَى الزَّوْجِ أَوْ إلَى الزَّوْجَةِ وَأَكَّدَ النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَهْتَزُّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّطْلِيقُ مَنْهِيًّا سَوَاءٌ أُضِيفَ إلَى الزَّوْجِ أَوْ إلَيْهَا ثُمَّ جَاءَتْ الرُّخْصَةُ فِي التَّطْلِيقِ الْمُضَافِ إلَى الزَّوْجَةِ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ مِنْ قَوْله تَعَالَى ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١] وقَوْله تَعَالَى ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ [البقرة: ٢٣٠] وقَوْله تَعَالَى ﴿لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [البقرة: ٢٣٦] وَنَحْوِ ذَلِكَ فَبَقِيَ التَّطْلِيقُ الْمُضَافُ إلَى الزَّوْجِ عَلَى أَصْلِ النَّهْيِ، وَالْمَنْهِيُّ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَالتَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ إذَا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَوِّعًا، لَا وُجُودَ لَهُ شَرْعًا فَلَا يَصِحُّ ضَرُورَةً.

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّا مِنْك طَالِقٌ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ إخْبَارًا عَنْ كَوْنِهِ طَالِقًا كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الصِّيغَةِ وَإِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ إنْشَاءً - وَهُوَ إثْبَاتُ الِانْطِلَاقِ - وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَيْدُ النِّكَاحِ.

وَإِثْبَاتُ الثَّابِتِ مُحَالٌ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إخْبَارًا عَنْ كَوْنِهِ طَالِقًا وَهُوَ صَادِقٌ فِي هَذَا الْإِخْبَارِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَيْدُ النِّكَاحِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ قَيْدَ النِّكَاحِ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ إنَّمَا ثَبَتَ لِضَرُورَةِ تَحْقِيقِ مَا هُوَ مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ - وَهُوَ السَّكَنُ وَالنَّسَبُ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ وَالْبُرُوزَ يُرِيبُ فَلَا يَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ إلَيْهَا، وَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَا يَثِقُ بِكَوْنِهِ مِنْهُ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ فَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ قَيْدُ النِّكَاحِ، وَالثَّانِي أَنَّ قَيْدَ النِّكَاحِ هُوَ مِلْكُ النِّكَاحِ وَهُوَ الِاخْتِصَاصُ الْحَاجِزُ وَالزَّوْجُ مَالِكٌ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَمْلُوكَةٌ مِلْكَ النِّكَاحِ، وَالْمَمْلُوكُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَالِكٍ وَلَا مِلْكَ لِغَيْرِ الزَّوْجِ فِيهَا فَعُلِمَ أَنَّ الزَّوْجَ مَالِكُهَا؛ فَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا بِخِلَافِ مَا إذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَيْهَا، فَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ عَلَى الْإِخْبَارِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ كَذِبًا لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُنْطَلِقَةٍ لِثُبُوتِ قَيْدِ النِّكَاحِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِنْشَاءِ أَنَّهُ مُمْكِنٌ لِعَدَمِ الِانْطِلَاقِ قَبْلَهُ، بِخِلَافِ الْكِنَايَةِ الْمُبِينَةِ؛ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ قَطْعُ الْوَصْلَةِ وَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي الطَّرَفَيْنِ فَإِذَا زَالَتْ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ تَزُولُ مِنْ الطَّرَفِ الْآخَرِ ضَرُورَةً؛ لِاسْتِحَالَةِ اتِّصَالِ شَيْءٍ بِمَا هُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ، وَالتَّحْرِيمُ إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ، وَإِنَّهَا لَا تَثْبُتُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ حَلَالًا لِمَنْ هُوَ حَرَامٌ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الِانْطِلَاقِ وَرَفْعُ الْقَيْدِ، وَالْقَيْدُ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَإِنَّهُ قَائِمٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ: الزَّوْجُ مَمْنُوعٌ عَنْ التَّزَوُّجِ بِأُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا فَنَعَمْ لَكِنْ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَإِنَّهُ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي النِّكَاحِ وَهَذَا كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ النِّكَاحِ أَلَا تَرَى لَوْ تَزَوَّجَهُمَا جَمِيعًا لَمْ يَجُزْ؟ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَى امْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ مُبْهَمَةٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ أَوْ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ: إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ وَلَمْ يَنْوِ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا صَحَّتْ الْإِضَافَةُ.

وَقَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ: لَا تَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى الْمُعَيَّنَةِ وَجْهُ قَوْلِهِمْ: لَمْ يَصْلُحْ مَحِلًّا لِلنِّكَاحِ فَلَا يَصْلُحُ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ؛ إذْ الطَّلَاقُ يَرْفَعُ مَا ثَبَتَ بِالنِّكَاحِ.

وَكَذَا لَمْ يَصْلُحْ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ فَكَذَا الطَّلَاقُ.

وَأَمَّا عُمُومَاتُ الطَّلَاقِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ ﷿ ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١] وَقَوْلِهِ ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ﴾ [البقرة: ٢٢٩] ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠] ، وَقَوْلِهِ ﴿لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٦]

وَقَالَ النَّبِيُّ : «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ طَلَاقٍ وَطَلَاقٍ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ الْمُضَافِ إلَى الْمُعَيَّنِ وَالْمَجْهُولِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَنْجِيزِ الطَّلَاقِ فِي الْحَقِيقَةِ، بَلْ هُوَ تَعْلِيقٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِشَرْطِ الْبَيَانِ لِمَا نَذْكُرُ، وَالطَّلَاقُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ؟ فَكَذَا بِهَذَا الشَّرْطِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَلَا تَكُونُ الْمَجْهُولَةُ مَحِلًّا لِلنِّكَاحِ.

وَكَذَا الْإِجَارَةُ وَالْبَيْعُ وَسَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ هَذَا إيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي الْمَجْهُولَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>