للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

في السورة الكريمة المذكورة لا يوجب عدمَ مسبوقيتِه به فإن حكايةَ كلامٍ واحدٍ على أساليبَ مختلفةٍ حسبما يقتضيه المقام ويستدعيه حسنُ الانتظامِ ليست بعزيزة في الكتاب العزيز وناهيك بما نقل في توجيه قولِه تعالى بَشَرًا مع عدم سبقِ معرفةِ الملائكةِ عليهم السلام بذلك وحيث صِيَر إليه مع أنه لم يرِدُ به نقلٌ فما ظنك بما قد وقع التصريحُ به في مواضعَ عديدةٍ فلعله قد أُلقي إليهم ابتداءً جميعُ ما يتوقفُ عليه الأمرُ التنجيزيُّ إجمالاً بأن قيل مثلاً إني خالقٌ بشراً من كذا وكذا وجاعلٌ إياه خليفةً في الأرض فإذا سويتُه ونفختُ فِيهِ مِن رُّوحِى وتبيَّن لكم شأنُه فقَعوا له ساجدين فخلقه فسواه ونفخ فيه الروح فقالوا عند ذلك ما قالوا أو ألقيَ إليهم خبرُ الخلافةِ بعد تحققِ الشرائطِ المعدودة بأن قيل إثرَ نفخِ الروح فيه إني جاعلٌ هذا خليفةً في الأرض فهناك ذكروا في حقه عليه السلام ما ذكروا فأيده الله عز وجل بتعليم الأسماءِ فشاهدوا منه ما شاهدوا فعند ذلك ورد الأمرُ التنجيزيّ اعتناء بشأن المأمور به وتعييناً لوقته وقد حُكي بعضُ الأمور في بعض المواطنِ وبعضُها في بعضِها اكتفاء بما ذكر في كل موطنٍ عما تُرك في موطن آخرَ والذي يحسم مادةَ الاشتباهِ أن ما في سورة ص من قوله تعالى {إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} الخ بدل من قول تعالى {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} فيما قبله من قوله تعالى {مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الاعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} أي بكلامهم عند اختصامِهم والمرادُ بالملأ الأعلى وآدمُ عليهم السَّلامُ وإبليسُ حسبما أطبق عليه جمهورُ الأمة وباختصامِهم ما جرى بينهم في شأن خلافةِ آدم عليه السلام من التقاول الذي من جملته ما صدر عنه عليه السلام من الإنباء بالأسماء ومن قضية البدلية وقوعُ الاختصامِ المذكورِ في تضاعيف ما ذكر فيه تفصيلاً من الأمر التعليقيّ وما عُلِّق به من الخلق والتسويةِ ونفخِ الروحِ فيه وما ترتب عليه من سجود الملائكةِ عليهم السلام وعنادِ إبليسَ وما تبِعه من لعنه وإخراجِه من بَيْن الملائكةِ وما جرى بعده من الأفعالِ والأقوالِ وإذ ليس تمامُ الاختصامِ بعد سجودِ الملائكة ومكابرةِ إبليسَ بالأسماء حينئذ فهو إذن بعد نفخِ الروحِ وقبل السجود حتماً بأحد الطريقين والله سبحانه أعلمُ بحقيقة الأمر

{أبى واستكبر} استئنافٌ مبين لكيفية عدمِ السّجودِ المفهومِ من الاستثناءِ وأنه لم يكن للتردد أو للتأمل والإباءُ الامتناعُ بالاختيار والتكبرُ أن يرى نفسه أكبرَ من غيره والاستكبارُ طلب ذلك بالتشبّع أي امتنع عما أُمر به واستكبر من أن يعظِّمه أو يتخذه وصلةً في عبادة ربِّه وتقديمُ الإباءِ على الاستكبار مع كونه مسبِّباً عنه لظهوره ووضوحِ أثرِه واقتُصر في سورة ص على ذكر الاستكبار اكتفاءً به وفي سورة الحجر على ذكر الإباءِ حيث قيل أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين

{وَكَانَ مِنَ الكافرين} أي في علم الله تعالى إذ كان أصلُه من كفرة الجنِّ فلذلك ارتكب ما ارتكبه على ما أفصح عنه قولُه تعالى {كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ} فالجملةُ اعتراضيةٌ مقرِّرةٌ لما سبق من الإباء والاستكبار أو صار منهم باستقباح أمرِه تعالى إياه بالسجود لآدمَ عليه السلام زعماً منه أنه أفضلُ منه والأفضلُ لا يُحسِنُ أن يؤمَرَ بالخضوع للمفضول كما يفصحُ عنه قولُه {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} حين قيل له {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} لا بترك الواجب وحده فالجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها وإيثارُ الواو على الفاء للدلالة على أن محضَ الإباءِ والاستكبار كفر لا أنهما سببان له كما تفيد الفاء

<<  <  ج: ص:  >  >>