لاحبٌّ يهتدى بمناره وعلَمٌ يُستضاء بناره وأَرسل رسلاً مبشرين ومنذرين وأَنزل عليهم كتباً من جملتها هذا الوحيُ الناطقُ بحقيقة الحقِّ الفاحصِ عن كل ما جلّ من الأسرار ودقّ الهادي إلى سبيل الاستدلال بتلك الأدلةِ المفضية إلى معالم الهدى المنحية عن فيافي الضلالة ومهاوي الردى ألا يُرى كيف بيّن أولاً تنزُّهَ جنابِ الكبرياء وتعالِيَه بحسب الذات عن أن يحوم حوله شائبةُ توهمِ الإشراك ثم أوضح سرَّ إلقاءِ الوحي على الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسلام وكيفيةَ أمرِهم بإنذار الناس ودعوتِهم إلى التوحيد ونهيِهم عن الإشراك ثم كرّ على بيان تعاليه عن ذلك بحسب الأفعالِ مرشداً إلى طريقة الاستدلالِ فبدأ بفعله المتعلق بمحيط العالم الجُسماني ومركزِه بقوله تعالى خُلِقَ السموات والأرض بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم فصّل أفعالَه المتعلقةَ بما بينهما فبدأ بفعله المتعلّق بأنفس المخاطَبين ثم ذكر ما يتعلق بما لا بد لهم منه في معايشهم ثم بين قدرته على خلق مالا يحيط به علمُ البشر بقوله ويخلق مالا تَعْلَمُونَ وكلُّ ذلك كما ترى بيانٌ لسبيل التوحيد غِبَّ بيانٍ وتعديلٌ له أيُّما تعديلٍ فالمرادُ بالسبيل على الأول الجنسُ بدليل إضافة القصد إليه قوله تعالى (وَمِنْهَا) في محلِ الرفعِ على الابتداء إما باعتبار مضمونِه وإما بتقدير الموصوف كما في قوله تعالى ومنادون ذلك وقد مرَّ في قولِه تعالى وَمِنَ الناس مَن يقول آمنا بالله وباليوم الأخر الخ أي بعضُ السبيل أو بعضٌ من السبيل فإنها تؤنث وتذكر (جَائِرٌ) أي مائلٌ عن الحق منحرفٌ عنه لا يوصِل سالكَه إليه وهو طرقُ الضلال التي لا يكاد يحصى عددُها المندرجُ كلُّها تحت الجائر وعلى الثاني نفسُ السبيل المستقيم والضميرُ في منها راجع إليها بتقدير المضاف أي ومن جنسها لما عرفتَ من أنَّ تعديلَ السبيل وتقويمَه إبداعُه ابتداءً على وجه الاستقامةِ والعدالةِ لا تقويمُه بعد انحرافه وأياما كان فليس في النظم الكريم تغييرُ الأسلوب رعايةً لأمر مطلوب كما قيل فإن ذلك إنما يكون فيما اقتضى الظاهر سبكاً معيناً ولكن يُعدل عن ذلك لنُكتة أهمَّ منه كما في قوله سبحانه الذى يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ فإن مقتضى الظاهرِ أن يقال والذي يُسقِمني ويشفينِ ولكن غُيِّر إلى مَا عليهِ النظمُ الكريمُ تفادياً عن إسناد ما تكرهه النفسُ إليه سبحانه وليس المرادُ ببيان قصدِ السبيل مجردَ إعلامِ أنه مستقيمٌ حتى يصِحّ إسنادُ أنه جائرٌ إليه تعالى فيُحتاجَ إلى الاعتذار عن عدم ذلك على أنه لو اريد ذاك لم يوجد لتغيير الأسلوبِ نكتةٌ وقد بُين ذلك في مواضعَ غير معدودةٍ بل المرادُ ما مر من نصب الأدلةِ لهداية الناسِ إليه ولا إمكانَ لإسناد مثلِه إليه تعالى بالنسبة إلى الطريق الجائر بأن يقال وجائرها ثم يُغير سبكُ النظم عن ذلك لداعية أقوى منه بل الجملةُ الظرفيةُ اعتراضيةٌ جيء بها لبيان الحاجةِ إلى البيان والتعديل وإظهارِ جلالة قدرِ النعمة في ذلك والمعنى على الله تعالى بيانُ الطريق المستقيم الموصِل إلى الحقِّ وتعديلُه بما ذكر من نصب الأدلةِ ليسلُكَه الناس باختيارهم ويصلوا إلى المقصِد وهذا هو الهدايةُ المفسرة بالدلالة على ما يوصلُ إلى المطلوب لا الهدايةُ المستلزمةُ للاهتداء البتةَ فإن ذلك مما ليس بحق على الله تعالى لا بحسب ذاته ولا بحسب رحمته بل هو مُخلٌّ بحكمته حيث يستدعيه تسويةَ المحسِن والمسيء والمطيعِ والعاصي بحسب الاستعدادِ وإليه أُشير بقوله تعالى (وَلَوْ شَاء الله لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) أي لو شاء أن يهديَكم إلى ما ذكر من التوحيد هدايةً موصلةً إليه البتةَ مستلزِمةً لاهتدائكم أجمعين لفعل ذلك ولكن لم يشأه لأن مشيئتَه تابعةٌ للحكمة الداعية إليها ولا