المرادَ بهم الذين لا يغفُلون عنه تعالى في عامة أوقاتِهم لاطمئنان قلوبِهم بذكره واستغراف سرائرِهم في مراقبته لما أيقنوا بأنَّ كلَّ ما سواه فائضٌ منه وعائدٌ إليه فلا يشاهدون حالاً من الأحوال في أنفسهم وإليه أُشير بقولِه عزَّ وجلَّ
{قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبُهُمْ} ولا في الآفاق وإليه أشير بما بعده إلا وهم يعاينون في ذلك شأنا من شئونه تعالى فالمرادُ به ذكرُه تعالى مطلقاً سواءٌ كان ذلك من حيث الذاتُ أو من حيث الصفاتُ والأفعالُ وسواءٌ قارنه الذكرُ اللساني أولا وأما ما يُحكى عن ابن عمرَ وعروةَ بنِ الزبير وجماعة رضى الله عنهم من أنهم خرجوا يوم العيدِ إلى المصلى فجعلوا يذكرون الله تعالى فقال بعضُهم أما قال الله تعالى {الذين يَذْكُرُونَ الله قياما وَقُعُوداً} فقاموا يذكرون الله على أقدامهم فليس مرادُهم به تفسيرَ الآيةِ وتحقيقَ مِصداقِها على التعيين وإنما أرادوا به التبركَ بنوع موافقةٍ لها في ضمن الإيتان بفرد من أفرادِ مدلولِها وأما حملُ الذكرِ على الصلاة في هذه الأحوالِ حسب الاستطاعةِ كما قال عليه السلام لعِمرانَ بنِ الحصين صلِّ قائماً فإن لم تستطعْ فعلى جنب تومئ إيماءً فمما لا يساعده سباق لنظم الجليل ولا سياقة ولا قيام والقعودُ جمعُ قائمٍ وقاعدٍ كنيام ورقدو جمع نائم وانتصابُهما على الحالية من ضمير يذكرُون أي يذكرونه قائمين وقاعدين وقولُه تعالى وعلى جُنُوبِهِمْ متعلقٌ بمحذوف معطوفٍ على الحالين أي وكائنين على جنوبهم أي مضطجعين والمرادُ تعميمُ الذكرِ للأوقات كما مر وتخصيصُ الأحوالِ المذكورةِ بالذكر ليس لتخصيص الذكرِ بها بل لأنها الأحوالُ المعهودةُ التي لا يخلو عنها الإنسانُ غالباً
{وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السماوات} عطفٌ على يَذَّكَّرُونَ منتظمٌ معه في حيز الصلةِ فلا محلَّ له من الإعراب وقيل محلُّه النصبُ على أنَّهُ معطوف على الأحوال السابقةِ وليس بظاهر وهو بيانٌ لتفكرهم في أفعاله سبحانه إثرَ بيانِ تفكرِهم في ذاته تعالى على الإطلاق وإشارة إلى نتيجته التي يؤدّي إليها من معرفة أحوالِ المعادِ حسبما نطقتْ به ألسنةُ الرسلِ وآياتُ الكتبِ فكما أنها آياتٌ تشريعيةٌ هاديةٌ للخلق إلى معرفته تعالى ووجوبِ طاعتِه كذلك المخلوقاتُ آياتٌ تكوينيةٌ مرشدةٌ لهم إلى ذلك فالأُولى منبِّهاتٌ لهم على الثانية ودواعٍ إلى الاستشهاد بها كهذه الآيةِ الكريمةِ ونحوِها مما ورد في مواضعَ غيرِ محصورةٍ من التنزيل والثانيةُ مؤيِّداتٌ للأولى وشواهدُ دالةٌ على صحة مضمونِها وحقّيةِ مكنونِها فإن من تأمل في تضاعيف خلقِ العالَمِ على هذا النمطِ البديعِ قضى باتصاف خالقِه تعالى بجميع ما نطقت به الرسلُ والكتبُ من الوجوب الذاتيِّ والوَحدةِ الذاتيةِ والمُلك القاهِرِ والقُدرةِ التامةِ والعلمِ الشاملِ والحِكمةِ البالغةِ وغيرِ ذلك من صفات الكمالِ وحكمَ بأن مَن قدَر على إنشائه بلا مثال يِحتذيه أو قانونٍ ينتحيه فهو على إعادته بالبعث أقدرُ وحكمَ بأن ذلك ليس إلا لحكمة باهرةٍ هي جزاءُ المكلَّفين بحسب استحقاقِهم المنوطِ بأعمالهم أي علومِهم واعتقاداتِهم التابعةِ لأنظارهم فيما نُصب لهم من الحُجج والدلائلِ والأَماراتِ والمَخايلِ وسائرِ أعمالِهم المتفرّعةِ على ذلك فإنَّ العملَ غيرُ مختصَ بعمل الجوارحِ بل متناولٌ للعمل القلبى بل هو أشرفُ أفراده لما أن لكلٍ من القلبِ والقالَب عملا خاصا به ومن قضية كونِ الأولِ أشرفَ من الثَّانِي كونُ عملِه أيضاً أشرفَ من عمله كيف ولا ولا عملَ بدون معرفتِه تعالى التي هي أولُ الواجباتِ على العباد والغايةُ