القُصوى من الخلق على ما نطق به عز وجل {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} أي ليعرفونِ كما أَعرَب عنه قولُه عليه الصَّلاة والسلام يقول الله تعالى كُنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أنْ أُعْرَفَ فخلقتُ الخلقَ لأُعرف وإنما طريقُها النظرُ والتفكرُ فيما ذكر من شئونه تعالى وقَد رُوِيَ عنْهُ عليهِ السلام أنَّهُ قالَ لا تُفضِّلوني على يونسَ بنِ مَتَّى فإنَّهُ كانَ يُرفع لهُ كلَّ يومٍ مثلُ عملِ أهلِ الأرضِ قالُوا وإنَّما كانَ ذلكَ التفكّرَ في أمر الله تعالى ولذلك قال عليه السلام لاعبادة مثلُ التفكر وقد عرفت أنه مستتبِعٌ لتحقيق ما جاءت به الشريعةُ الحقةُ وإلا لما فسَّر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قوله تعالى {وَهُوَ الذى خلق السماوات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} بقوله عليه الصلاة والسلام أيُكم أحسنُ عقلاً وأورَعُ عن محارم الله تعالى فإن التورعَ عن محارمه سبحانه موقوفٌ على معرفة الحلال والحرام المنوط بالكتاب والسنة فحينئذ تتصادقُ الآياتُ التكوينيةُ وتتوافق الأدلةُ السمعيةُ والعقليةُ وهو السرُّ في نظم ما حُكي عن المتفكرين من الأمور المستدعِيةِ للإيمان بالشريعة في سلك نتيجةِ تفكُّرِهم كما ستقف عليه وإظهارُ خلقِ السمواتِ والأرضِ مع كفاية الإضمارِ لإبراز كمالِ العنايةِ ببيان حالِهم والإيذانِ بكون تفكرِهم على وجه التحقيقِ والتفصيلِ وعدمِ التعرضِ لإدراج اختلافِ المَلَوْينِ في سلك التفكر مع ذكره فيما سلف إما للإيذان بظهور اندراجِه فيه لما أن ذلك من الأحوال التابعةِ لأحوال السمواتِ والأرضِ كما أشير إليه وإما للإشعار بمسارعتهم إلى الحُكم بالنتيجة بمجرد تفكرِهم في بعض الآياتِ منْ غيرِ حاجةٍ إلى بَعْضٍ آخرَ منها فِى إثبات المطلوب والخلقُ مصدرٌ على حاله أي يتفكرون في إنشائهما وإبداعِهما بما فيهما من عجائبِ المصنوعات وقيل بمعنى المخلوقِ على أن الإضافةَ بمعنى في أي يتفكرون فيما خُلق فيهما أعمُّ من أن يكون بطريق الجزئيةِ منهما أو بطريق الحلولِ فيهما أو على أنها بيانية
{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا} كلمةُ هذا إشارةٌ إلى السموات والأرضِ متضمّنةٌ لضرب من التعظيم كما في قوله تعالى إن هذا القرآن يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ والتذكيرُ لما أنهما باعتبار تعلّقِ الخلقِ بهما في معنى المخلوق وباطلا إما صفةٌ لمصدرٍ مؤكدٍ محذوفٍ أو حالٌ من المفعولِ بِه أي ما خلقتَ هذا المخلوقَ البديعَ العظيمَ الشأنِ عبثاً عارياً عن الحكمة خالياً عن المصلحة كما ينبئ عنه أوضاعُ الغافلين عن ذلك المعرِضين عن التفكر فيه بل منتظما لحكم جليلية ومصالحَ عظيمةٍ من جملتها أن يكون مداراً لمعايش العبادِ ومناراً يُرشدهم إلى معرفة أحوالِ المبدأ والمعادِ حسبما أَفْصحت عنه الرسلُ والكتبُ الإلهية كما تحققتَه مفصلاً والجملة بتمامها في حيز النصب بقول مقدر هو على تقدير كونِ الموصول نعتا لأولي الألباب استئنافٌ مبينٌ لنتيجة التفكرِ ومدلول الايات ناشئ مما سبق فإن النفسَ عند سماعِ تخصيصِ الآياتِ المنصوبةِ في خلق العالمِ بأولي الألباب ثم وصفَهم بذكر الله تعالَى والتفكرِ في محال الآياتِ تبقى مترقبةً لما يظهر منهم من آثارها وأحكامِها كأنَّه قيلَ فماذا يكونُ عند تفكرِهم في ذلك وماذا يترتب عليه من النتيجة فقيل يقولون كيت وكيت مما ينبئ عن وقوفهم على سر الخلقِ المؤدِّي إلى معرفة صدقِ الرسلِ وحقية الكُتب الناطقةِ بتفاصيل الأحكامِ الشرعيةِ على التفصيل الذي وقفت عليه هذا وأما جعلُه حالا من المستكنِّ في الفعل كما أطبقَ عليه الجمهورُ فمما لا يساعده النظمِ الكريمِ لما أن مَا في حيزِ الصِّلةِ وما هو قيدٌ له حقُّه أن يكون من مبادى