الدِّيَةَ لَا يَرِثُهَا إِلَّا الْعَصَبَةُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنْهُ، وَكَانَ هَذَا هُوَ رَأْيُ عُمَرَ، وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ لَمَّا أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ: أَنْ يُوَرِّثَ زَوْجَةَ أَشْيَمَ الْمَذْكُورِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: هِيَ مِيرَاثٌ، وَلَكِنَّهَا لَا تَقْضِي مِنْهَا دُيُونَهُ، وَلَا تَنْفُذُ مِنْهَا وَصَايَاهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَقَدْ ذَكَرَ الْخِرَقِيُّ فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ فَقُتِلَ وَأُخِذَتْ دِيَتُهُ ; فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَالْأُخْرَى: لَيْسَ لِمَنْ أَوْصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنَ الدِّيَةِ شَيْءٌ.
وَمَبْنَى هَذَا: عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ مِلْكٌ لِلْمَيِّتِ، أَوْ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهَا تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّهَا بَدَلُ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ بَدَلَهَا لَهُ كَدِيَةِ أَطْرَافِهِ الْمَقْطُوعَةِ مِنْهُ فِي الْحَيَاةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَهَا عَنِ الْقَاتِلِ بَعْدَ جُرْحِهِ إِيَّاهُ كَانَ صَحِيحًا وَلَيْسَ لَهُ إِسْقَاطُ حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَلِأَنَّهَا مَالٌ مَوْرُوثٌ فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ أَمْوَالِهِ. وَالْأُخْرَى أَنَّهَا تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً ; لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُسْتَحَقُّ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِالْمَوْتِ تَزُولُ أَمْلَاكُ الْمَيِّتِ الثَّابِتَةُ لَهُ، وَيَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِوَرَثَتِهِ ابْتِدَاءً، وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْمَيِّتَ يُجَهَّزُ مِنْهَا. اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ قُدَامَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّهُ يُقَرَّرُ مِلْكُ الْمَيِّتِ لِدِيَتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ فَتُوَرَّثُ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ ; لِتَصْرِيحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلضَّحَّاكِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِتَوْرِيثِ امْرَأَةِ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَتِهِ، وَالْمِيرَاثُ لَا يُطْلِقُ شَرْعًا إِلَّا عَلَى مَا كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمَيِّتِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ لَهُ هَذَا السُّلْطَانَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا الْآيَةَ [١٧ \ ٣٣] .
فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَلِيِّ فِي الْآيَةِ: الْوَرَثَةُ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ، وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالصِّغَارِ وَالْكِبَارِ ; فَإِنْ عَفَا مَنْ لَهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ صَحَّ عَفْوُهُ وَسَقَطَ بِهِ الْقِصَاصُ، وَتَعَيَّنَتِ الدِّيَةُ لِمَنْ لَمْ يَعْفُ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute