قَالَ الزُّرْقَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُوَطَّأِ "، وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ عَنِ الْفَضْلِ: أَفَضْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي، حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ مَعَ آخِرِ حَصَاةٍ، قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُفَسِّرٌ لِمَا أُبْهِمَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، أَتَمَّ رَمْيَهَا، اهـ. وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهَا.
وَإِذَا عَلِمْتَ الصَّحِيحَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، فَاعْلَمْ أَنَّ فِي وَقْتِ انْتِهَاءِ الرَّمْيِ مَذَاهِبَ لِلْعُلَمَاءِ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ، وَعَائِشَةَ: أَنَّهُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا رَاحَ إِلَى الْمَوْقِفِ، وَعَنْ عَلِيٍّ، وَأُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّهُمَا كَانَا يُلَبِّيَانِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ سَعْدٍ وَعَائِشَةَ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: يُلَبِّي حَتَّى يُصَلِّيَ الْغَدَاةَ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَقْطَعُهَا إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ، حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، قَطَعَ التَّلْبِيَةَ. قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا، اهـ. وَرَوَى مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهَا كَانَتْ تَتْرُكُ التَّلْبِيَةَ إِذَا رَجَعَتْ إِلَى الْمَوْقِفِ، وَرُوِيَ فِي " الْمُوَطَّأِ " أَيْضًا عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ فِي الْحَجِّ إِذَا انْتَهَى إِلَى الْحَرَمِ. حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَغْدُوَ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ. فَإِذَا غَدَا تَرَكَ التَّلْبِيَةَ. وَكَانَ يَتْرُكُ فِي الْعُمْرَةِ، إِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ، اهـ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا يَقْطَعُهَا، إِلَّا إِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ؛ لِدَلَالَةِ حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً وَاضِحَةً، وَدَلَالَةِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ عَلَى تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ بِمُزْدَلِفَةَ أَيْضًا، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا حُكْمُ التَّلْبِيَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ اخْتِلَافًا مَعْرُوفًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي ": لَمْ يَتَعَرَّضِ الْمُصَنِّفُ لِحُكْمِ التَّلْبِيَةِ، وَفِيهَا مَذَاهِبُ أَرْبَعَةٌ، يُمْكِنُ تَوْصِيلُهَا إِلَى عَشَرَةٍ.
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا سُنَّةٌ مِنَ السُّنَنِ لَا يَجِبُ بِتَرْكِهَا شَيْءٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ.
ثَانِيهَا: وَاجِبَةٌ، وَيَجِبُ بِتَرْكِهَا دَمٌ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute