وَقَالَ: إِنَّهُ وَجَدَ لِلشَّافِعِيِّ نَصًّا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَحَكَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْخَطَّابِيُّ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَأَغْرَبَ النَّوَوِيُّ فَحَكَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَيَجِبُ بِتَرْكِهَا دَمٌ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ إِلَّا أَنَّ ابْنَ الْجَلَّابِ قَالَ: التَّلْبِيَةُ فِي الْحَجِّ مَسْنُونَةٌ غَيْرُ مَفْرُوضَةٍ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يُرِيدُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَإِلَّا فَهِيَ وَاجِبَةٌ، وَلِذَلِكَ يَجِبُ بِتَرْكِهَا الدَّمُ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لَمْ يَجِبْ، وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَنَّهُ يَجِبُ عِنْدَهُمْ بِتَرْكِ تَكْرَارِهَا دَمٌ، وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ الْوُجُوبِ.
ثَالِثُهَا: وَاجِبَةٌ لَكِنْ يَقُومُ مَقَامَهَا فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ، كَالتَّوَجُّهِ عَلَى الطَّرِيقِ، وَبِهَذَا صَدَّرَ ابْنُ شَاسٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ كَلَامَهُ فِي الْجَوَاهِرِ لَهُ، وَحَكَى صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مِثْلَهُ، لَكِنْ زَادَ الْقَوْلَ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ مِنَ الذِّكْرِ، كَمَا فِي مَذْهَبِهِمْ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لَفْظٌ مُعَيَّنٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إِنْ كَبَّرَ أَوْ هَلَّلَ أَوْ سَبَّحَ يَنْوِي بِذَلِكَ الْإِحْرَامَ، فَهُوَ مُحْرِمٌ.
رَابِعُهَا: أَنَّهَا رُكْنٌ فِي الْإِحْرَامِ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِهَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالزُّبَيْرِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ قَالُوا: هِيَ نَظِيرَةُ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ لِلصَّلَاةِ، وَيُقَوِّيهِ مَا تَقْدَّمَ مِنْ بَحْثِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ حَقِيقَةِ الْإِحْرَامِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ، قَالَ: التَّلْبِيَةُ فَرْضُ الْحَجِّ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَطَاوُسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ عَنْ دَاوُدَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِهَا، وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ كَوْنِهَا رُكْنًا. انْتَهَى مِنْ " فَتْحِ الْبَارِي ".
وَإِذَا عَرَفْتَ مَذَاهِبَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي حُكْمِ التَّلْبِيَةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبَّى كَمَا ذَكَرْنَا وَقَالَ: " لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ " فَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ عَنْهُ مِنْ مَنَاسِكِنَا التَّلْبِيَةَ، وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ: أَمَّا كَوْنُهَا مَسْنُونَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً أَوْ وَاجِبَةً يَصِحُّ الْحَجُّ بِدُونِهَا، وَتُجْبَرُ بِدَمٍ فَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَرِدْ فِيهِ دَلِيلٌ خَاصٌّ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي اتِّبَاعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا مَعْنَى التَّلْبِيَةِ: فَهِيَ مِنْ لَبَّى بِمَعْنَى: أَجَابَ، فَلَفْظَةُ: لَبَّيْكَ مُثَنَّاةٌ عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ وَالْجُمْهُورِ، وَتَثْنِيَتُهَا لِلتَّكْثِيرِ: أَيْ إِجَابَةً لَكَ بَعْدَ إِجَابَةٍ، وَلُزُومًا لِطَاعَتِكَ، وَقَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ الْبَصْرِيُّ: لَبَّيْكَ: اسْمٌ مُفْرَدٌ لَا مُثَنًّى، قَالَ: وَإِنَّمَا انْقَلَبَتْ أَلِفُهُ يَاءً لِاتِّصَالِهَا بِالضَّمِيرِ، كَمَا قُلِبَتْ أَلْفُ لَدَى، وَإِلَى، وَعَلَى فِي حَالَةِ الِاتِّصَالِ بِالضَّمِيرِ فَتَقُولُ: لَدَيْكَ، وَإِلَيْكَ وَعَلَيْكَ بِإِبْدَالِ الْأَلْفِ يَاءً، وَالْأَظْهَرُ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، وَجُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ سُمِعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ثُبُوتُ الْيَاءِ مَعَ الْإِضَافَةِ لِلِاسْمِ الظَّاهِرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute