للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَلَا تَسْأَلَانِ الْمَرْءَ مَاذَا يُحَاوِلُ ... أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أَمْ ضَلَالٌ وَبَاطِلُ

وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ إِلْزَامُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهَا، فَيَجْعَلُهُ وَاجِبًا عَلَيْهَا وَهُوَ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ: الْتِزَامُ الْمُكَلَّفِ قُرْبَةً لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " النِّهَايَةِ ": يُقَالُ: نَذَرْتُ أَنْذِرُ وَأَنْذُرُ نَذْرًا إِذَا أَوْجَبْتُ عَلَى نَفْسِي شَيْئًا تَبَرُّعًا مِنْ عِبَادَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي أَحَادِيثِهِ ذِكْرُ النَّهْيِ عَنْهُ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِأَمْرِهِ وَتَحْذِيرٌ عَنِ التَّهَاوُنِ بِهِ بَعْدَ إِيجَابِهِ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ الزَّجْرُ عَنْهُ حَتَّى لَا يُفْعَلَ لَكَانَ فِي ذَلِكَ إِبْطَالُ حُكْمِهِ، وَإِسْقَاطُ لُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ إِذْ كَانَ بِالنَّهْيِ يَصِيرُ مَعْصِيَةً. فَلَا يَلْزَمُ، وَإِنَّمَا وَجْهُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَدْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَجُرُّ لَهُمْ فِي الْعَاجِلِ نَفْعًا، وَلَا يَصْرِفْ عَنْهُمْ ضُرًّا، وَلَا يَرُدُّ قَضَاءً. فَقَالَ: لَا تَنْذُرُوا عَلَى أَنَّكُمْ قَدْ تُدْرِكُونَ بِالنَّذْرِ شَيْئًا لَمْ يُقَدِّرْهُ اللَّهُ لَكُمْ، أَوْ تَصْرِفُونَ بِهِ عَنْكُمْ مَا جَرَى بِهِ الْقَضَاءُ عَلَيْكُمْ، فَإِذَا نَذَرْتُمْ وَلَمْ تَعْتَقِدُوا هَذَا فَأَخْرِجُوا عَنْهُ بِالْوَفَاءِ، فَإِنَّ الَّذِي نَذَرْتُمُوهُ لَازِمٌ لَكُمُ، اهـ الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْأَثِيرِ. وَقَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ، وَلَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ.

فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَرْجَحَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْجَمْعِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ تَعْرِيفَ الْمَالِكِيَّةِ لِلنَّذْرِ شَرْعًا: بِأَنَّهُ الْتِزَامُ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ، وَلَوْ غَضْبَانَ إِلَى آخِرِهِ فِيهِ أَمْرَانِ:

الْأَوَّلُ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْإِسْلَامِ فِي النَّذْرِ فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ مَا نَذَرَهُ الْكَافِرُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ قَدْ يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ إِذَا أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ لَغْوًا غَيْرَ مُنْعَقِدٍ، لَمَا كَانَ لَهُ أَثَرٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ.

قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ: " أَوْفِ بِنَذْرِكَ "، انْتَهَى مِنْهُ. فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " أَوْفِ بِنَذْرِكَ " مَعَ أَنَّهُ نَذَرَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ كَمَا تَرَى، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا أَوَّلَهُ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ فِي تَعْرِيفِ النَّذْرِ، وَلَوْ غَضْبَانَ لَا يَخْفَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُخْتَلِفُونَ فِي نَذْرِ الْغَضْبَانِ، هَلْ يُلْزَمُ فِيهِ مَا نَذَرَ أَوْ هُوَ مِنْ نَوْعِ اللَّجَاجِ تَلْزَمُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا أَوْضَحْنَا حُكْمَهُ سَابِقًا.

الْفَرْعُ الْخَامِسُ: اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ تَقَرُّبًا لِلَّهِ فِي مَحَلٍّ

<<  <  ج: ص:  >  >>