ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مِقْدَارَهَا بِقَوْلِهِ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [٩٧ \ ٣] ، وَبَيَّنَ خَوَاصَّهَا بِقَوْلِهِ: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [٩٧ \ ٤ - ٥] .
الْحَفَاوَةُ بِهَا.
لَقَدْ بَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَفِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ» ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ كُلَّهَا ; الْتِمَاسًا لِتِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَكَانَ يُحْيِيهَا قَائِمًا فِي مُعْتَكَفِهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَإِذَا جَاءَ الْعَشْرُ: شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَطَوَى فِرَاشَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» ، فَلَمْ يَكُنْ يَمْرَحُ وَلَا يَلْعَبُ وَلَا حَتَّى نَوْمٌ، بَلِ اجْتِهَادٌ فِي الْعِبَادَةِ.
وَكَذَلِكَ شَهْرُ رَمَضَانَ بِكَامِلِهِ ; لِكَوْنِهِ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أَيْضًا، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، فَكَانَ تَكْرِيمُهُ بِصَوْمِ نَهَارِهِ وَقِيَامِ لَيْلِهِ، لَا بِالْمَلَاهِي وَاللُّعَبِ وَالْحَفَلَاتِ، كَمَالُهُ بَعْضٌ صَارَ يُعِدُّ النَّاسُ وَسَائِلَ تَرْفِيهٍ خَاصَّةٍ، فَيَعْكِسُ فِيهِ الْقَصْدَ وَيُخَالِفُ الْمَشْرُوعَ.
وَمِنَ الْمُنَاسَبَاتِ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، لَقَدْ كَانَ لَهُ تَارِيخٌ قَدِيمٌ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُعَظِّمُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَتَكْسُو فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَلَمَّا قَدِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ، وَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَ تَصُومُونَهُ؟» ، فَقَالُوا: يَوْمًا نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى مِنْ فِرْعَوْنَ، فَصَامَهُ شُكْرًا لِلَّهِ فَصُمْنَاهُ. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ» ، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ. إِنَّهَا مُنَاسَبَةٌ عُظْمَى: نَجَاةُ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى مِنْ عَدُوِّ اللَّهِ فِرْعَوْنَ، نُصْرَةُ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ، وَنَصْرُ جُنْدِ اللَّهِ وَإِهْلَاكُ جُنْدِ الشَّيْطَانِ.
وَهَذَا بِحَقٍّ مُنَاسِبَةٌ يَهْتَمُّ لَهَا كُلُّ مُسْلِمٍ. وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أَبْنَاءُ عَلَّاتٍ، دِينُنَا وَاحِدٌ» .
وَقَدْ كَانَ صِيَامُهُ فَرْضًا حَتَّى نُسِخَ بِفَرْضِ رَمَضَانَ، وَهَكَذَا مَعَ عِظَمِ مُنَاسَبَتِهِ مِنْ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَنُصْرَةِ رَسُولِهِ، كَانَ ابْتِهَاجُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِهِ فِي صِيَامِهِ شُكْرًا لِلَّهِ.
وَكَذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ السَّلِيمُ وَالسُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الْكَرِيمَةُ، لَا مَا يُحْدِثُهُ بَعْضُ الْعَوَامِّ وَالْجُهَّالِ مِنْ مَظَاهِرَ وَأَحْدَاثٍ لَا أَصْلَ لَهَا، ثُمَّ يَأْتِي الْعَمَلُ الْأَعَمُّ وَالْمُنَاسَبَاتُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute