وقال - رحمه الله -: (لم يُنقَلْ عن أحَدٍ ممن مَضَى أنَّه كان لِعُلَمائهم لباسٌ يُعرَفُونَ به، غيرَ لباسِ الناسِ جميعاً، لا مَزِيَّةَ لهم على غيرهم في الثوب، ولا في التفصيل؛ بَلْ لِباسُ بَعضِهم كانَ أقلَّ مِن لباسِ الناسِ؛ لِتَواضُعِهِمْ، ووَرَعِهِمْ، وَزُهْدِهِمْ، ولمعرِفَةِ الحقِّ، وَالرجوعِ إليه، ولِفَضِيلَةِ ذلك عند الشرع. والعَالِمُ أولَى مَن يُبادِرُ إلى الأفضَلِ والأرجَحِ والأزكَى في الشرع، نَعَم إن عمر - رضي الله عنه - قال: أستحبُ للقارئ أن يكونَ ثوبُه أبيضَ. يعني: يفعلُ ذلك توقِيرَاً لِلْعلِمِ، فلا يلبَسْ ثوباً وِسخَاً ولا قذَراً، بل نَظِيفَاً من الأوساخ، ولم يقُلْ أحَدٌ أنه يخالِفُ لِباسِ الناسِ بِسَبَبِ عِلْمِهِ. وما وردَ عنه - عليه الصلاة والسلام - مِن التأكيدِ في لُبْسِ الحسَنِ مِن الثيابِ، إلا في الجُمَعِ والأعيادِ، ولم يَرِدْ عنْهُ في ذلك مخالفةُ لِباسِ النَّاسِ لِفَقِيهِ، ولا لِغَيْرِهِ. ومجالِسُ العِلْمِ اللُّبْسُ لها أخفضُ رُتبَةً مِن الجُمَعِ والأعياد، وقَد جُعِلَتْ اليومَ هذه الثياب للفَقِيهِ كأنَّها فَرضٌ عَلَيه، وأنه لا بُدَّ للطالب منها، ولا يُمْكِنُ أنْ يقعُدَ في الدَّرْسِ إلا بها، فإنْ قعَدَ بغيرِهَا، قِيل عنه: مَهِين يتهَاون بمَنْصِبِ العِلْمِ، لا يُعطِي العِلْمَ حقَّهُ، لا يَقُومُ بِما يجِبُ لَهُ! ! فانعَكسَ الأمرُ، ودُثِرَتْ السُّنَّةُ، ونُسِيَ فِعْلُ السَّلَفِ؛ بِفَتوى مَن غَفَلَ أوْ وَهِمَ، واتِّباعِهَا وشَدِّ اليَدِ عَليها؛ لِكَونِها جاءَتْ فِيها حُظُوظُ النفْسِ ومَلْذُوذَاتُها، وهي: التَّمْيِيزُ عن الأصحَابِ والأقرَانِ؛ لأن مَن لَبِسَ ذلك الثوب عندَهُم، قيل: هُو فَقِيهٌ، فيتَمَيِّزُ إذْ ذَلِكَ عَن العَوامِّ، وهذِهِ دَرَجَةٌ لا تحصُلُ له لَوْ لم يَكُنْ ذلكَ إلا بَعدَ مُدَّةٍ طوِيلَةٍ، حتى تحصلَ لهُ درَجةُ فَضِيلَةٍ تنْقُلُهُ عَن درجَةِ العوَامِّ، فبِنَفْسِ اللبس لِتلكَ الثياب؛ انتقلَتْ درَجَتُهُ عنهم، =