للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فلم تغير له لونًا ولا طعمًا ولا ريحًا، أنه بحاله ويُتطهر منه (١).

وقال ابن جزي: الماء المطلق، وهو الباقي على أصله، فهو طاهر مطهر إجماعًا، سواء أكان عذبًا أو مالحًا، أو من بحر أو سماء أو أرض (٢).

قلت: وهذا الإجماع منخرم؛ فقد ورد عن ابن عمرو، وأبي هريرة، وابن عمر عدم التطهر بماء البحر (٣).


(١) «الإجماع» (ص: ٣٣).
(٢) «القوانين الفقهية» (ص: ٤٤).
(٣) روى ابن أبي شيبة «المصنف» (١/ ١٢٢) بإسناد صحيح عن ابن عمرو قال: (مَاءُ البَحْرِ لَا يُجْزِئ مِنْ وُضُوءٍ). وروى ابن أبي شيبة (١/ ١٢٢) بإسناد صحيح عن ابن عمر، قال: (التَيَمُّمُ أَحَبّ إلىَّ مِنْ الوُضُوءِ بِمَاءِ البَحْرِ). واستدلوا بحديث ابن عمرو، قال: قال رسول الله : «لَا يَرْكَبُ الْبَحْرَ إِلَّا حَاجٌّ أَوْ مُعْتَمِرٌ أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ الله، فَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا، وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرًا». وجه الدلالة: إذا كان تحت البحر نار، فلا يكون فيه الطهارة والرحمة؛ فلذا لا يجوز الطهارة بماء البحر.
واعترض عليه من وجهين:
الأول: أن الحديث لا يصح عن رسول الله ؛ فقد أخرجه سعيد بن منصور رقم (٢٣٩٣)، وفي إسناده بشر بن أبي عبد الله الكندي، وبشير بن مسلم، وكلاهما مجهول، وقد حدث اضطراب في إسناده؛ فتارة يرويه بشير، عن ابن عمرو، وتارة يرويه عن بشير، عن رجل، عن ابن عمرو، وتارة عن بشير بلغه عن ابن عمرو. قال ابن عبد البر: هو حديث ضعيف مظلم الإسناد لا يصححه أهل العلم بالحديث؛ لأن رواته مجهولون لا يُعرفون.
الوجه الثاني: ما قاله ابن قدامة «المغني» (١/ ٢٣): وَقَوْلُهُمْ: " هُوَ نَارٌ " إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ نَارٌ فِي الْحَالِ فَهُوَ خِلَافُ الْحِسِّ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ يَصِيرُ نَارًا، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الْوُضُوءَ بِهِ حَالَ كَوْنِهِ.
فالحاصل: أن الحديث الوارد لا يصح، وأما الآثار فلا حجة فيها؛ لا سيما إذا خالفت عموم قول النبي : «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ». وقال ابن رشد «بداية المجتهد» (١/ ٧١): وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْمِيَاهِ طَاهِرَةٌ فِي نَفْسِهَا مُطَهِّرَةٌ لِغَيْرِهَا، إِلَّا مَاءَ الْبَحْرِ؛ فَإِنَّ فِيهِ خِلَافًا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ شَاذًّا، وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِتَنَاوُلِ اسْمِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ لَهُ. وقال الزرقاني «شرح الموطأ» (١/ ٥٣).): فَالتَّطْهِيرُ بِهِ حَلَالٌ صَحِيحٌ كَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُالسَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ عَدَمِ الْإِجْزَاءِ بِهِ مُزَيَّفٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ بِأَنَّهُ أَرَادَ عَدَمَ الْإِجْزَاءِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ عِنْدَهُ.
ويتفرع من ماء البحر:
الماء المتغير بالملح. فذهب جمهور العلماء إلى أن الماء المتغير بالملح طهور ما دام يسمى ماء لعموم قول النبي في ماء البحر: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ». وروى البخارى ومسلم من حديث ابن عباس قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَوَقَصَتْهُ- أَوْ قَالَ: فَأَوْقَصَتْهُ- قَالَ النَّبِيُّ : «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ». فدل ذلك على أن السدر إن أضيف إلى الماء لا بد أن يتغير به، وإذا كان يتطهر به الميت، فالحي كذلك، وإذا كان السدر إذا أضيف إلى الماء لا يسلب الطهورية؛ فكذا الملح إذا أضيف إلى الماء. وروى أحمد (٦/ ٣٤١) بسند رجاله ثقات عن أم هانئ قالت: اغْتَسَلَ النَّبِيُّ وَمَيْمُونَةُ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، قَصْعَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ. إذا كان الماء قد تغير من العجين وتطهر به النبي وزوجه؛ دل ذلك على أن الماء إذا تغير بشيء طاهر يبقى طهورًا ما دام يسمى ماءً.

<<  <   >  >>