مالك من الجزيرة، وعطاء بن عبد الله من خراسان، وحُمَيدٌ الطويل وأيوبُ السِّختياني من البصرة، إلى أن أتم عملَه في عهد المهدي العباسي، كما بينتُ ذلك فيما علقتُ على "الانتقاء" لابن عبد البر". انتهى.
وهذا الذي رجحه شيخنا من أن المنصور تحدث مع مالك في سنة ١٤٨، بشأن تدوين علم أهل المدينة، وأوصاه قبل حجته الأخيرة أن يتجنب في التأليف شدائد ابن عمر.. غير ظاهر فإن حجته الأخيرة التي توفي فيها كانت سنة ١٥٨، والحجة التي قبلها كانت سنة ١٥٢ والتي قبلها سنة ١٤٧، والتي قبلها سنة ١٤٤، والتي قبلها سنة ١٤٠، كما أسلفته عن "تاريخ ابن جرير".
ولم يحج المنصور في سنة ١٤٨، وإنما حج بالناس ابنُهُ جعفر كما في غير كتاب فتكون سنةُ ١٤٨ سَبْقَ قلم عن ١٤٧.
ثم قوله: إن المنصور تحدث مع مالك في تلك السنة، وأوصاه بتجنبِ ما أوصاه بتجنبه في الحجة التي قبل الأخيرة، وهي - كما عند ابن جرير - سنة ١٥٢، فيه بُعدٌ أيضاً فإن المتبادر أن يقع ذلك من المنصور في أول حجة له بعد توليه الخلافة سنة ١٤٠، أو في ثاني حجة سنة ١٤٤، ويمكن أن يكون ذلك في ثالث حجة سنة ١٤٧، أما في رابع حجة سنة ١٥٢، ففيه بُعدٌ شديد لأنه يلزم أن يكون مالك ألَّف "الموطأ" بأقلَّ من سبع سنوات، لأنه قد سمعه منه المهدي سنة ١٥٩، على ما ذكره شيخنا، في حين أن المهديَّ إنما حجَّ بالناس سنة ١٦٠، وحجَّ الهادي سنة ١٦١، كما عند ابن جرير.
والمذكور أن مالكاً ألَّف "الموطأ" في سنين كثيرة، ذُكر أنها أربعون، وذُكر أنها دون ذلك، وعلى كل حال يستبعد أن تكون مدة التأليف نحو سبع سنوات، لما عُرف من إتقان مالك وضبطه وانتقائه، وقلة تحديثه بالأحاديث في مجالسه، فلم يكن يحدث في مجلسه إلا ببضعة أحاديث معدودة فتأليفه "الموطأ" بعد سنة ١٤٠ جزماً أو بعد سنة ١٤٧، وفراغه منه بعد سنة ١٥٨ جزماً، والله تعالى أعلم.
وهكذا تم تأليف هذا الكتاب "الموطأ" فقد جمع فيه الإمام مالك - كما سبق نقلُ قوله - حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين، ورأياً هو إجماعُ أهل المدينة، لم يخرج عنها، فجمع الحديثَ بأوسع معانيه - وما يتصلُ به من آثار الصدر الأول، لأنها كانت المرجع الأكبَر في الأحكام العملية.