لابن مقلاص، بكلمة الشافعي لإسحاق بن راهويه رضي الله عنهما، بشكل يَقطع لسان كل مشاغب على الفقهاء من رواة الحديث، بدعوى أنه أهل للاستنباط والفقه والاجتهاد في الأحكام.
فهذا يحيى بن معين إمامُ الحفظ للحديث، وإمامُ الجرح والتعديل، يقفُ ساكتاُ في مسألة جواز تغسيل المرأة الحائض للمرأة الميتة، حتى يأتيَ الإمام أحمد بن حنبل فيُفتيَهم بجواز ذلك، ويذكُرَ لهم دليلَه مما هو محفوظ لديهم كل الحفظ من عِدَّة طرق. كما سيأتي نقلُه قريباً.
وهذا الإمام الشافعي يقول لإسحاق بن راهويه: لو كنتُ أحفظ ما تحفظ لغلبتُ أهل الدنيا. وفيه بيانً تميُّز الشافعي بالفقه، وتميُّزِ ابن راهويه بالحفظ، ولكنه لم يُمكِّي ابنَ راهويه أن يبلغ مبلغ الشافعي بالفقه، مع إقرار الشافعي له بالتفوق العظيم الباهر في الحفظ، لأنه كما قال البيهقي: كان يَسردُ الحديثَ سرداً، مع أنه قد ذكره بعضُهم في عدادِ من كان له مذهب فقهي.
فسَرْد الحديث وحفظه وروايتُه: غيرُ فهمه واستنباط معنايه على وجهها، إذْ خلق الله تعالى لكل علم أهلاً ينهضون به ويتميزون على سواهم.
[الإمامة في علم تجتمع معها العامية في علم آخر:]
- ولا غضاضة في هذا، فالعلم رزقٌ وعطاء من الله تعالى، وهو كثير وكبير وثقيل، ولا يَملك كلُّ إمام ناصيةَ كل علم أراد معرفَته، فقد قال الإمام أبو حامد الغزالي، وتَبِعَهُ الإمام ابن قدامة الحنبلي، في بعض مباحث الإجماع، في كتابيهما:"المستصفَى" و"روضة الناظر"، ما معناه: كم من عالم إمامٌ في علم، عاميٌّ في علم آخر.
قال الإمام أبو حامد الغزالي في آخر رسالته:"قانون التأويل": "واعلم أنَّ بضاعتي في علم الحديث مُزجاة". انتهى.
ومثلُ هذه الكلمة المملوءة بالتواضع، لا يقولها هذا الإمامُ العظيم والمحجاجُ الفريد حُجَّةُ الإسلام، لولا ما كان عليه من السلوك السَّنِي والخُلُق السَّنِي والخُلُق السُّنِّي:"أنتم أعلم بأمر دنياكم".