الحديث والأثر من ذم الرأي وأهله، فإنما يتناوَلُ الحيل، فإنها أُحدِثَتْ بالرأي، وإنها رأيٌ محض، ليس فيه أثر عن الصحابة، ولا له نظير من الحِيَل ثَبَت بأصل فيقاسُ عليه بمثله، والحكمُ إذا لم يَثُبت بأصل ولا نظير، كان رأياً محضاً باطلاً.
وفي ذم الرأي آثار مشهورة عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عُمَر وغيرهم، وكذلك عن التابعين بعدَهم بإحسان، فيها بيان أن الأخذ بالرأي يُحلِّلٌ الحرام، ويُحرِّم الحلال.
ومعلوم أن هذه الآثار الذَامة للرأي، لم يُقصَد بها اجتهادُ الرأي على الأصولِ من الكتاب والسنة والإجماع، في حادثة لم توجد في كتاب ولا سنَّة ولا إجماع، ممن يَعرف الأشباه والنظائر، وفقهَ معاني الاحكام، فيقيسُ قياسَ تشبيه وتمثيل، أو قياسَ تعليل وتأصيل، قياساً لم يعارضه ما هو أولى منه، فإنَّ أدلة جواز هذا للمفتي لغيره والعاملِ لنفسِه، ووجوبه على الحاكم والإمام أشهَرُ من أن تُذكَر هنا، وليس في هذا القياس تَحليلٌ لما حرَّمه الله سبحانه، ولا تحريم لما حللَّه الله.
وإنما القياسُ والرأي الذي يَهدِمُ الإسلام، ويُحلِّل الحرام، ويُحرِّم الحلال: ما عارض الكتابَ والسنَّة، أو ما كان عليه سلفُ الأمة، أو معانيَ ذلك المعتبرة. ثم مخالفتُه لهذه الأصول على قسمين:
أحدُهما: أن يخالف أصلاً مخالفةً ظاهرة، بدون أصل آخر. فهذا لا يقعُ من مفتٍ إلاَّ إذا كان الأصل مما لم يبلغه علمُه، كما هو الواقع لكثير من الأئمة، لم يبلغهم بعض السُّنَن، فخالفوها خطأً. وأما الأصولُ المشهورة، فلا يخالفها مسلم خلافاً ظاهراً، من غير معارضة بأصل آخر، فضلاً عن أن يخالفها بعضُ المشهورين بالفتيا.
الثاني: أن يخالف الأصل بنوعِ تأويلٍ وهو فيه مخطئ، بأن يضَعَ الإسمَ على غير موضعه، أو على بعض موضعه، ويُراعي فيه مجرَّدَ اللفظِ دون اعتبار المقصود لمعنىً أو غيرِ ذلك.
وإنَّ من أكثر أهل الأمصار قياساً وفقهاً أهلَ الكوفة، حتى كان يقال: فقهٌ كوفي، وعبادةٌ بصريَّة. وكان عِظَمُ علمهم مأخوذاً عن عمر وعلى وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، وكان أصحابُ عبد الله، وأصحابُ عمر، وأصحابُ علي، من العلم والفقهِ بالمكان الذي لا يخفى.