للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فانتضى السيوف من أغمادها، وأوقد النيران من شعلها، ثم ركب بأهل الحق أهل الباطل؛ فلم يبرح يفصل أوصالهم، ويُسقِي الأرض دماءهم، حتى أدخلهم في الذي خرجوا منه، وقررهم بالذي نفروا منه، وقد كان أصاب من مال الله بكرًا١ يرتوي عليه، وحبشية ترضع ولدًا له، فرأى ذلك غصة عند موته في حلقه؛ فأدى ذلك إلى الخليفة من بعده، وبرئ إليهم منه، وفارق الدنيا نقيًا تقيًا، على منهاج صاحبه، رضي الله عنه. ثم قام من بعده عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فمصر الأمصار؛ وخلط الشدة باللين، فحسر عن ذراعيه، وشمر عن ساقيه، وأعد للأمور أقرانها٢، وللحرب آلتها؛ فلما أصابه قِنّ٣ المغيرة بن شعبة، أمر ابن عباس يسأل الناس: هل يثبتون قاتله؟ فلما قيل له قن المغيرة، استهل٤ بحمد الله أن لا يكون أصابه ذو حق في الفيء، فيستحل دمه بما استحل من حقه، وقد كان أصاب من مال الله بضعًا وثمانين ألفًا، فكسر بها رباعه٥، وكره بها كفالة أهله وولده، فأدى ذلك إلى الخليفة من بعده، وفارق الدنيا نقيًا تقيًا على منهاج صاحبه، رضي الله تعالى عنهما، ثم إنا والله ما اجتمعنا بعدهما إلا على ظُلَّع٦، ثم إنك يا عمر ابن الدنيا، ولدتك ملوكها، وألقمتك ثديها؛ فلما وليتها ألقيتها حيث ألقاها الله؛ فالحمد له الذي جلا بك حوبتها٧، وكشف بك كربتها، امض ولا تلتفت؛ فإنه لا يذل على الحق شيء، ولا يعز على الباطل شيء، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات ولما أن قال: "ثم إنا والله اجتمعنا بعدهما إلا على ظلع" سكت الناس كلهم إلا هشامًا فإنه قال: "كذبت".

"البيان والتبيين ٢: ٥٩. والعقد الفريد ٢: ١٤٣. وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ص١٠٩ وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص١٣٦".


١ الفتي من الإبل.
٢ أسبابها التي تقاد بها، جمع قرن كسبب: وهو الحبل يجمع به البعيران.
٣ القن: عبد ملك هو وأبوه، أو الذي ولد عندك ولا تستطيع إخراجه عنك.
٤ صاح.
٥ الرباع جمع ربع كشمس: وهو الدار.
٦ جمع ظالع: وهو المتهم والمائل، وأصله من ظلع البعير كمنع: غمز في مشيه.
٧ الحوبة: الهم والحاجة.

<<  <  ج: ص:  >  >>