للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٤٧٣- موعظته لعمر بن عبد العزيز أيضا:

وكتب إليه عمر بن عبد العزيز: اكتب إلي يا أبا سعيد بذم الدنيا، فكتب إليه:

"أما بعد يا أمير المؤمنين: فإن الدنيا دار ظعن١ وانتقال، وليست بدار إقامة على حال، وإنما أنزل إليها آدم عقوبة، فاحذرها؛ فإن الراغب فيها تارك، والغني فيها فقير، والسعيد من أهلها من لم يتعرض لها، إنها إذا اختبرها اللبيب الحاذق، وجدها تذل من أعزها، وتفرق من جمعها، فهي كالسم يأكله من لا يعرفه، ويرغب فيه من يجهله، وفيه والله حتفه؛ فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جراحه، يحتمي قليلا، مخافة ما يكره طويلا، الصبر على لأوائها٢، أيسر من احتمال بلائها، واللبيب من حذرها ولم يغتر بزينتها، فإنها غدارة ختالة٣ خداعة، قد تعرضت بآمالها، وتزينت لخطابها، فهي كالعروس؛ العيون إليها ناظرة والقلوب عليها والهة٤، وهي -والذي بعث محمدا بالحق- لأزواجها قاتلة، فاتق يا أمير المؤمنين صرعتها، واحذر عثرتها، فالرخاء فيها موصول بالشدة والبلاء، والبقاء مؤد إلى الهلكة والفناء.

واعلم يا أمير المؤمنين، أن أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، وتاركها موفق، والمتمسك بها هالك غرق، والفطن اللبيب من خاف ما خوفه الله وحذر ما حذره، وقدر من دار الفناء إلى دار البقاء، فعند الموت يأتيه اليقين؛ الدنيا والله يا أمير المؤمنين دار عقوبة، لها يجمع من لا عقل له، وبها يغتر من لا علم عنده، والحازم اللبيب من كان فيها كالمداوي جراحه، يصبر على مرارة الدواء، لما يرجو من


١ ارتحال.
٢ شدتها.
٣ خداعة.
٤ من الوله بالتحريك: وهو ذهاب العقل من شدة الوجد.

<<  <  ج: ص:  >  >>