للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

١٣٩- الجاحظ وابن أبي داود:

وكان الجاحظ مختصًّا بمحمد بن عبد الملك الزيات، منحرفًا عن أحمد بن أبي دواد، فلما نُكب ابن الزيات١، حُمِل الجاحظ مقيَّدًا من البصرة، وفي عنقه سلسلة، وعليه قميص سَمَل٢، فلما دخل على القاضي أحمد قال له: "والله ما أعلمك إلا متناسيا للنعمة، كفورًا للصنيعة، مَعْدِنا للمساوئ، وما فتنتني باستصلاحي لك، ولكن الأيام لا تُصْلِح منك، لفساد طويَّتك، ورداءة دخيلتك، وسوء اختيارك، وغالب طباعك".

فقال الجاحظ: "خفِّضْ عليك -أيَّدك الله- فوالله لأن يكون لك الأمر عليَّ، خير من أن يكون لي عليك، ولأن أسيء وتحسن، أحسن في الأُحْدُوثة عليك، من أن أحسن وتسيء، ولأن تعفو عني في حال قدرتك، أجمل بك من الانتقام مني".

فقال أحمد: والله ما علمتك إلا كثير تزويق الكلام، فحلّ عنه الغُلّ والقيد، وأحسن إليه، وصَدَّره في المجلس. "زهر الآداب ٢: ١٠٦، والمنية والأمل ص٣٩".


١ كان في نفس المتوكل من ابن الزيات شيء كثير؛ وذلك أنه لما مات الواثق -وهو أخو المتوكل- أشار ابن الزيات بتولية ولد الواثق، وأشار ابن أبي دواد بتولية المتوكل، وقام في ذلك وقعد حتى عممه بيده وألبسه البردة، وقبله بين عينيه، وكان المتوكل في أيام الواثق يدخل على ابن الزيات فيتجَهَّمه ويغلظ له في الكلام -يتقرب بذلك إلى الواثق- فحقد المتوكل ذلك عليه، فلما ولي الخلافة، أمهله أربعين يومًا حتى يطمئن إليه، ثم قبض عليه وسجنه، واستصفى أمواله، وكان ابن الزيات إبان وزارته قد اتخذ تنورًا من حديد، وأطراف مساميره إلى داخل، وهي قائمة مثل رءوس المسال، يعذب فيه من يستحقون العقوبة وكان إذا قال أحدهم ارحمني أيها الوزير قال له: الرحمة خور في الطبيعة، فلما اعتقله المتوكل أمر بادخاله في التنور: وقيده بخمسة عشر رطلًا من الحديد، فقال: يا أمير المؤمنين ارحمني، فقال له: الرحمة خور في الطبيعة، وبقي في العذاب أربعين يوما حتى مات سنة ٢٣٣هـ.
٢ السمل: الحلق من الثياب.

<<  <  ج: ص:  >  >>