للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[قولهم في بكاء الموتى]

٥٦- أعرابية تبكي ابنها:

وحَجَّت أعرابية ومعها ابن لها فأُصيبت به، فلمَّا دُفن قامت على قَبْرِه وهي وَجِعَة فقالت:

"والله يا بُنَيّ لقد غَذَوْتك رَضِيعًا، وفَقَدْتُك سَرِيعا، وكأنه لم يكن بين الحالين مُدَّة أَلْتَذُّ بعيشك فيها، فأصبحت بعد النَّضَارة والغَضَارَة١، ورَوْنَق الحياة، والتَّنَسُّم في طيب روائحها، تحت أطباق الثرى جسدًا هامدًا، ورُفاتًا سَحِيقًا، وصعيدًا جُرُزًا٢.

أي بني لقد سَحَبَتِ الدنيا عليك أذيال الفَنَا، وأسكنتك دار البَلَى، ورَمَتْنِي بعد نَكْبَة الرَّدَى، أي بني لقد أسفر لي عن وجه الدنيا صباح داجٍ ظلامه٣، ثم قالت:

أي ربِّ، ومنك العدل، ومن خلقك الجوْر، وهَبْتَه لي قُرَّةً عين، فلم تُمَتِّعني به كثيرًا، بل سَلَبْتَنِيه وَشِيكًا٤، ثم أمرتني بالصبر، ووعدتني عليه الأجر، فَصَدَّقَت وعدك، ورضيتُ قضاءك، فَرِحَم الله من ترَحَّم على من اسْتَوْدَعْتَهُ الرَّدْمَ٥، ووسَّدْتُه الثَّرَى، اللهم ارحم غُرْبته، وآنِس وحْشَتَه، واسْتُر عَوْرَتَه، يوم تَنْكَشِف الهَنَات٦ والسَّوْءَات.


١ النضارة: النعمة والحسن والغنى، والنضارة أيضًا: النعمة والسعة والخصب:
٢ أطباق جمع طبق: وهو وجه الأرض، والرفات: الحطام، وسحيقًا: مسحوقًا، والصعيد: التراب، أو وجه الأرض وأرض جرز: لا تنبت، أو أكل نباتها، أو لم يصبها مطر.
٣ أسفر الصبح وسفر كضرب: أضاء وأشرق، داج: قال الأصمعي: دجا الليل، إنما هو ألبس كل شيء، وليس هو من الظلمة، قال: ومنه قولهم: دجا الإسلام أي قوي، وألبس كل شيء.
٤ سريعا.
٥ الردم، السد، وما يسقط من الجدار المتهدم.
٦ السيئات.

<<  <  ج: ص:  >  >>