للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيما بينهم قائمًا، لا يتخوف محسنهم منه رهقًا١، ولا مسيئهم عدوانًا، فقد كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم جريدة يستاك بها، ويردع عنه المنافقين، فأتاه جبريل فقال: "يا محمد، ما هذه الجريدة بيدك! اقذفها لا تملأ قلوبهم رعبًا" فكيف من سفك دماءهم، وشقق أبشارهم، وأنهب٢ أموالهم؟ يا أمير المؤمنين: إن المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، دعا إلى القصاص من نفسه بخدش خدشه أعرابيًّا لم يتعمده، فهبط جبريل، فقال: "يا محمد، إن الله لم يبعثك جبارًا تكسر قرون أمتك" واعلم أن كل ما في يدك لا يعدل شربة من شراب الجنة، ولا ثمرة من ثمارها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقاب ٣ قوس أحدكم من الجنة، أوقذة ٤ خير له من الدنيا بأسرها" إن الدنيا تنقطع ويزول نعيمها، ولو بقي الملك لمن قبلك لم يصل إليك يا أمير المؤمنين، ولو أن ثوبًا من ثياب أهل النار علق بين السماء والأرض لآذاهم. فكيف من يتقمصه؟ ولو أن ذنوبًا٥ من صديد أهل النار صب على ماء الأرض لآجنه٦، فكيف بمن يتجرعه؟ ولو أن حلقة من سلاسل جهنم وضعت على جبل لذاب، فكيف من سلك٧ فيها، ويرد فضلها على عاتقه؟ وقد قال عمر بن الخطاب: "لا يقوم أمر الناس إلا حصيف٨ العقدة، بعيد الغرة٩ لا يطلع الناس من على عورة، ولا يخنق في الحلق على جرة١٠، ولا تأخذه في الله لومة لائم".

واعلم أن السلطان أربعة: أمير يظلف١١ نفسه وعماله، فذلك له أجر المجاهد في سبيل الله، وصلاته سبعون ألف صلاة، ويد الله بالرحمة على رأسه ترفرف، وأمير رتع ورتع عماله، فذلك يحمل أثقاله وأثقالًا مع أثقاله، وأمير يظلف نفسه،


١ ظلمًا.
٢ جعلها نهيًا يغار عليه.
٣ القاب: ما بين المقبض والسية "وسية القوس كعدة: ما عطف من طرفيها".
٤ ريش السهم.
٥ الذنوب: الدلو.
٦ جعله آجنًا أي متغير الطعم واللون.
٧ قيد.
٨ حصف الرجل ككرم: استحكم عقله فهو حصيف، وأحصف الحبل: أحكم قتله.
٩ الغفلة.
١٠ أحنق: حقد حقدًا لا ينحل، وأحنق الصلب: لزق بالبطن، والجرة ما يفيض به البعير فيأكله ثانية، والمراد أنه لا يضمر الحقد والحنق.
١١ يكف.

<<  <  ج: ص:  >  >>