للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم تجافى لهم عنها، وطال عليهم بها، لكان إليهم مما يُنْسَب، وبه يعرف، من الجود الذي طبعه الله عليه، وجعل قُرَّة عينه، ونَهْمة١ نفسه فيه، فإن قال المهدي: هذا رأيٌ مستقيم سديد، في أهل الخراج الذين شَكَوْا ظلم عمالنا، وتحامل وُلَاتنا؛ فأما الجنود الذين نقضوا مواثيق العهود، وأنطقوا لسان الإرجاف، وفتحوا باب المعصية، وكسروا قيد الفتنة، فقد ينبغي لهم أن أجعلهم نَكالا لغيرهم، عِظة لسواهم، فيعلم المهدي أنه لو أُتِيَ بهم مغلولين في الحديد، مُقَرَّنين٢ في الأصفاد٣، ثم اتسع لِحَقْنِ دمائهم عفوُه، ولإقالة عثرتهم صَفْحُه، واستبقاهم لما هم فيه من حربه، أو لمن بإزائهم من عدوه، لما كان بِدْعًا من رأيه، ولا مستنكرًا من نظره، لقد علمت العرب أنه أعظم الخلفاء والملوك عفوًا، وأشدها وقعا، وأصدقها صولة، وأنه لا يتعاظمه٤ عفو، لا يتكاءَده٥ صفح، وإن عظُم الذنب، وجَلَّ الخطبُ، فالرأي للمهدي -وفقه الله تعالى- أن يَحُل عقدة الغيظ، بالرجاء لحسن ثواب الله في العفو عنهم، وأن يذكر أولى حالاتهم، وضَيْعَةَ عيالاتهم، بِرًّا بهم، وتوسعًا لهم، فإنهم إخوان دولته، وأركان دعوته، وأساس حقه الذين بعزتهم يصول، وبحجَّتهم يقول، وإنما مثلهم فيما دخلوا فيه من مَسَاخِطه، وتعرَّضوا له من معاصيه، وانطَوَوْا فيه عن إجابته، ومَثَلُه في قلة ما غير ذلك من رأيه فيهم، أو نُقِل من حاله لهم، أو تغير من نعمته بهم، كمثل رجلين أخوين متناصرين متوازرين، أصاب أحدها خَبَلٌ عارض، ولهو حادث، فنهض إلى أخيه بالأذى، وتحامل عليه بالمكروه، فلم يزدد أخوه إلا رِقَّةً له، ولطفًا به، واحتيالا لمداواة مرضه، ومراجعة حاله، عطفا عليه، وبِرًّا به، ومَرْحَمَةً له".


١ النهمة: الحاجة وبلوغ الشهوة في الشيء.
٢ مقيدين.
٣ الأصفاد: القيود: جمع صفد كسبب.
٤ تعاظمه الأمر: عظم عليه.
٥ تكاءده الأمر: شق عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>