للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عليهم. يريد أن لا يدع أحدًا من إخوان الفتن، ودواعي البدع، وفرسان الضلال. إلا توطَّأه بحرِّ القتل، وألبسه قناع القهر. وقلَّده طوق الذل، ولا أحدًا من الذين عملوا في قصِّ جناح الفتنة، وإخماد نار البدعة، ونُصْرَة وُلَاة الحق، إلا أجرى عليهم دِيم فضله، وجداول نَهْلِهِ، فإذا خرج مُزْمِعًا به، مجمعًا عليه، لم يَسِر إلا قليلًا حتى يأتيه أن قد عملت حيله، وكَدَحَت كتبه، ونَفَذت مكايده، فَهَدَأَت نافرة القلوب. ووقعت طائرة الأهواء، واجتمع عليه المختلفون بالرضا، فيميل نظرًا لهم، وبرًّا بهم. وتعطفا عليهم، إلى عدو قد أخاف سبيلهم وقطع طريقهم، ومنع حجاجهم بيت الله الحرام، وسلب تجارهم رزق الله الحلال؛ وأما الآخر فإنه يوجِّه إليهم، ثم تعتقد له الحجة عليهم بإعطاء ما يطلبون، وبذل ما يسألون، فإذا سمحت الفِرَق بقراباتها له. وجنح أهل النواحي بأعناقهم نحوه، فأصغت إليه الأفئدة، واجتمعت له الكلمة. وقدمت عليه الوفود، قصد لأول ناحية بخعت١ بطاعتها، وألقت بأَزِمَّتِهَا، فألبسها جناح نعمته، وأنزلها ظلَّ كرامته وخصَّها بعظيم حبائه٢، ثم عمَّ الجماعة بالمَعْدِلَةِ وتعطف عليهم بالرحمة، فلا تبقى فيهم ناحية دانية، ولا فرقة قاصية، إلا دخلت عليها بركته، ووصلت إليها منفعته، فأغنى فقيرها، وجبر كسيرها، ورفع وضيعها. وزاد رفيعها، ما خلا ناحيتين، ناحية يغلب عليها الشقاء، وتستميلهم الأهواء، فتستخف بدعوته، وتبطئ عن إجابته، وتتثاقل عن حقه، فتكون آخر من يبعث وأبطأ من يوجِّه، فيصطلي عليها موجدة، ويبتغي لها عِلَّة، لا يلبث يُجِد٣ بحق يلزمهم، وأمر يجب عليهم، فتستلحمهم الجيوش، وتأكلهم السيوف، ويستحرّ بهم القتل، ويحيط بهم الأسْر، ويُفْنِيهم التتبُّع، حتى يُخَرِّب البلاد ويُؤْتِمَ الأولاد، وناحية لا يبسط لهم أمانًا، ولا يقبل لهم عهدًا، ولا يجعل لهم ذِمَّة، لأنهم أول من فتح باب الفُرقة.


١بخع بالحق بخوعًا: أقربه وخضع له.
٢ عطائه.
٣ يغضب.

<<  <  ج: ص:  >  >>