للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلما قَدِم على الرشيد دخل عليه، فقبَّل يديه ورجليه، ثم مَثَل بين يديه، فقال: "الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي آنَسَ وحشتي، وأجاب دعوتي، ورحم تَضَرُّعِي، وأنسأ١ في أجلي، حتى أراني وجه سيدي، وأكرمني بقُرْبه، وامتن علي بتقبيل يده، وردَّنِي إلى خدمته، فوالله إن كنت لأذكر غيبتي عنه، ومخرجي والمقادير التي أزعجتني، فأعلم أنها كانت بمعاصٍ لحقتني، وخطايا أحاطت بي، ولو طال مُقَامِي عنك يا أمير المؤمنين -جعلني الله فداك- لَخِفْتُ أن يذهب عقلي، إشفاقًا على قُرْبك، وأسفًا على فراقك، وأن يعجل بي عن إذنك الاشتياقُ إلى رؤيتك، والحمد لله الذي عصمني في حال الغيبة، وأمتعني بالعافية، وعرَّفني الإجابة، ومسَّكني بالطاعة، وحال بيني وبين استعمال المعصية، فلم أشخص إلا عن رأيك، ولم أقْدَم إلا عن إذنك وأمرك، ولم يخترِ مني أجل دونك، والله يا أمير المؤمنين- فلا أعظم من اليمين بالله- لقد عاينتُ ما لو تُعَرض لي الدنيا كلها، لاخترت عليها قرَبك، وَلَمَا رأيتها عِوَضًا من المُقام معك".

ثم قال له بعقب هذا الكلام في هذا المقام:

"إن الله يا أمير المؤمنين لم يزل يُبْلِيك٢ في خلافتك، بقدر ما يعلم من نيَّتك، ويريك في رعيتك غاية أمنيتك، فيصلح لك جماعتهم، ويجمع أُلْفتهم، ويَلُمَّ شَعَثَهم، حفظًا لك فيهم، ورحمة لهم؛ وإنما هذا للتمسك بطاعتك، والاعتصام بحبل مَرْضَاتك، والله المحمود على ذلك وهو مُسْتَحِقُّه. وفارقتُ يا أمير المؤمنين أهل كُوَرِ الشأم وهم منقادون لأمرك، نادمون على ما فَرَط من معصيتهم لك، متمسكون بحبلك، نازلون على حكمك، طالبون لعفوك، واثقون بحِلْمِك، مؤمِّلون فضلك، آمنون بادرتك، حالهم في ائتلافهم كحالهم كانت في اختلافهم، وحالهم في أُلفتهم كحالهم


١ أخر.
٢ ينعم عليك.

<<  <  ج: ص:  >  >>