للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في كلام يدخل به إلى ذكر ما أريد منه، فلما رأى ذلك منذر بن سعيد البَلُّوطِي -وكان ممن حضر في زُمْرَة الفقهاء- قام من ذاته بدرجة من مِرَقاته، فوصل افتتاح أبي عليّ لأول خطبته بكلام كان يَسُحه سَحًّا، كأنما كان يحفظه قبل ذلك بمدة: فقال:

"أما بعد حمد الله، والثناء عليه، والتَّعْدَاد لآلائه، والشكر لنعمائه، والصلاة والسلام على محمد صفيِّه وخاتم أنبيائه، فإن لكل حادثة مقامًا، ولكل مقام مقال، وليس بعد الحق إلا الضلال، وإني قد قمت في مقام كريم، بين يدي ملك عظيم، فأَصغُوا١ إليَّ معشر المَلَأ بأسماعكم، وأتقِنوا عني٢ بأفئدتكم، إن من الحق أن يقال للمُحِقِّ صدقت، وللمُبِطل كذبت، وإن الجليل تعالى في سمائه، وتقدَّس في صفاته وأسمائه، أمر كًلِيمه موسى -صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع أنبيائه- أن يذكِّر قومه بأيام الله جل وعز عندهم، وفيه وفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، وإني أذكِّركم بأيام الله عندكم، وتَلَافيه لكم بخلافة أمير المؤمنين، التي لَمَّت شَعْثَكم، وأمنت سِرْبكم٣، ورفعت قوتكم، بعد أن كنتم قليلًا فكَّثركم، ومستضعفين فقوَّاكم، ومستذَلِّين فنصركم، ولَّاه الله رعايتكم، وأسند إليه إمامتكم، أيام ضَرَبت الفتنة سُرَادِقُها على الآفاق، وأحاطت بكم شُعَل النفاق، حتى صرتم في مثل حَدَقة البعير، ومن ضيق الحال، ونكد العيش والتغيير، فاستبدلتم بخلافته من الشدة الرخاء٤، وانتقلتم بيُمْن سياسته إلى تمهيد كَنَف العافية بعد استيطان البلاء.

أنشُدُكم بالله معاشر المَلَأ، ألم تكن الدماء مسفوكة فحقَنها، والسُّبُل مَخُوفة فأمَّنها


١ الذي في كتب اللغة: "أصغى إليه سمعه: أماله، وأصغى إليه: مال بسمعه نحوه" ولعل زيادة الباء في "بأسماعكم" من النساخ لا من الخطيب.
٢ هكذا في نفح الطيب، وفي مطمح الأنفس: "ومنوا علي بأفئدتكم".
٣ السرب: النفس.
٤ في الأصل "فاستبدلتم بخلافتة من الشدة بالرخاء" والصواب ما ذكرنا:

<<  <  ج: ص:  >  >>