للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إني أراك معتَنِزَة في هذا الوادي المُوحِش، والحِلَّة١ منك قريب، فلو انضممتِ إلى جنابهم فَأَنِسْتِ بهم! فقالت:

"يابن أخي، إني لآنس بالوَحْشَة، وأستريح إلى الوَحْدَة، ويطمئن قلبي إلى هذا الوادي المُوْحِش، فأتذكر مَنْ عَهِدْت، فكأني أُخاطب أعيانهم، وأَتَرَاءَى أشباحهم٢ وتتخيَّل لي أندية رجالهم، وملاعب وِلْدَانِهِم، ومُنَدَّى٣ أموالهم، والله يابن أخي لقد رأيت هذا الوادي بَشِع الَّلدِيدَين٤ بأهل أدْواح وقِباب، ونَعَمٍ كالهضاب، وخيل كالذِّئاب، وفتيان كالرِّماح، يبارُون الرياح، ويَحْمُون الصِّبَاح٥ فأحال عليهم الجَلَاء فما بِغَرْفَةٍ٦ فأصبحت الآثار دارسة، والمَحَال طَامسة، وكذلك سيرة الدهر فيمن وَثِقَ به".

ثم قالت: ارْمِ بعينك في هذا الملا المتباطِن٧، فَنَظَرْتُ فإذا قبور نحو أربعين أو خمسين، فقالت: ألا ترى تلك الأَجْدَاث؟ قلت نعم، قالت: ما انطوت إلا عَلَى أخٍ أو ابن أخٍ، أو عمّ أو ابن عمّ، فأصبحوا قد أَلْمَأَتْ٨ عليهم الأرض، وأنا أترقب ما غالهم، انصرف راشدًا رحمك الله.

"الأمالي ٢: ٧".


١ الحلة: جماعة بيوت الناس والجمع حلال ككتاب.
٢ أشخاصهم جمع شبح كشمس وسبب.
٣ المندية: أن يورد الرجل إبله: ثم يرعاها، ثم يوردها، ثم يرعاها، والمندي: المكان الذي يندى فيه المال.
٤ بشع: ملآن، اللديدان: الحالبان، والدوحة: الشجرة العظيمة.
٥ الصباح جمع صبيحة: وهي الجميلة من الصباحة كسحابة: الجمال.
٦ قم البيت قما: كنسة "والمقمة: المكنسة، والقمامة: الكناسة" والغرفة الواحدة من الغرف: وهي ضرب من الشجر.
٧ الملا: الفضاء، والمتباطن: المتطامن.
٨ أي احتوت عليهم، وغالهم: أهلكهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>