للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ، لَا يُخَالَفُ ذَلِكَ إلَّا لِمَقْصُودٍ، فَلَمَّا بَدَأَ سُبْحَانَهُ بِالْوَجْهِ ثُمَّ الْيَدَيْنِ ثُمَّ الرَّأْسِ ثُمَّ الرِّجْلَيْنِ دَلَّ الْأَمْرِ على التَّرْتِيبِ.

أما دليلهم من السنة: فالأحاديث الصحيحة المستفيضة عن جماعات الصحابة في صفة وضوء النبي وكلهم وصفوه مرتبًا مع كثرتهم، وكثرة المواطن التي رأوه فيها، ولم يثبت صفة غير مرتبة، وفِعله بيان للوضوء المأمور به، ولو جاز ترك الترتيب لتركه في بعض الأحوال لبيان الجواز.

قال ابن القيم: وَكَذَلِكَ كَانَ وُضُوءُهُ مُرَتَّبًا مُتَوَالِيًا لَمْ يُخِلَّ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً (١).

وروى مسلم عن عمرو بن عبسة وفيه: «مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ فَيَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ فَيَنْتَثِرُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ وَفِيهِ وَخَيَاشِيمِهِ، ثُمَّ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِله، إِلَّا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» (٢)، و «ثُمَّ» دليل على أن الترتيب واجب.

القول الآخر: ذهب الحنفية (٣)، والمالكية (٤) إلى أن الترتيب في أعضاء الوضوء سنة. واستدلوا بعموم قوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ .... ﴾ [المائدة: ٦] والواو لا تقتضي الترتيب كما في قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٩٦] وجائز عند الجميع أن يعتمر قبل أن يحج، ومثل ذلك كثير في القرآن، فدل على أن الواو لا توجب رتبة، وقد قال تعالى: ﴿يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ


(١) «زاد المعاد» (١/ ١٩٤).
(٢) «مسلم» (٨٣٢).
(٣) «أحكام القرآن» للجصاص (٢/ ٥٠٧)، و «المبسوط» (١/ ٥٥)، و «بدائع الصنائع» (١/ ١٨).
(٤) «المدونة» (١/ ١٤).

<<  <   >  >>