للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قَدْ أَفَاضَتْ يَا رَسُولَ الله وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ. فَقَالَ النَّبِيُّ : «فَلْتَنْفِرْ» (١).

وفي الصحيحين: قالت عائشة: خَرَجْنَا لَا نَرَى إِلَّا الحَجَّ، فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ حِضْتُ، فَدَخَلَ عليَّ رَسُولُ الله وَأَنَا أَبْكِي، قَالَ: «مَا لَكِ أنفِسْتِ؟». قُلْتُ: نَعَمْ؟ قَالَ: «إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ الله عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِي مَا يَقْضِي الحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» (٢)، وفي رواية: «فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي». وإذا كانت الحائض تُمنع من الطواف بالبيت بالإجماع، فكذا يُمنع الجنب قياسًا على الحائض.

قال ابن عبد البر: الحائض لا تطوف بالبيت، وهو أمر مجمع عليه، لا أعلم فيه خلافًا، وقد نقل الإجماع على ذلك ابن رشد والنووي وابن حزم وغيرهم.

أما دليلهم على الطهارة من الحدث الأصغر: فهو ما روى البخاري عن عائشة قالت: «إَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ - حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً … » (٣).

قال الشنقيطي: وُضُوءُ النبي لِطَوَافِهِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ - قَدْ دَلَّ دَلِيلَانِ عَلَى أَنَّهُ لَازِمٌ لَا بُدَّ مِنْهُ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، وَهَذَا الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَالتَّحَتُّمِ، فَلَمَّا تَوَضَّأَ لِلطَّوَافِ لَزِمَنَا أَنْ نَأْخُذَ عَنْهُ الْوُضُوءَ لِلطَّوَافِ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ فِي قَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ».

وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: أَنَّ فِعْلَهُ فِي الطَّوَافِ مِنَ الْوُضُوءِ لَهُ، وَمِنْ هَيْئَتِهِ الَّتِي أَتَى بِهِ عَلَيْهَا كُلِّهَا بَيَانٌ وَتَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ إِذَا كَانَ لِبَيَانِ نَصٍّ مِنْ كِتَابِ الله، فَهُوَ عَلَى اللُّزُومِ وَالتَّحَتُّمِ؛ وَلِذَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ مِنَ الْكُوعِ; لِأَنَّ قَطْعَ النَّبِيِّ لِلسَّارِقِ مِنَ الْكُوعِ بَيَانٌ وَتَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي


(١) «البخاري» (٤٤٠١)، و «مسلم» (٣٨٢ - ١٢١١).
(٢) «البخاري» (٢٩٤)، و «مسلم» (١٢١١).
(٣) «البخاري» (١٦١٤)، و «مسلم» (١٢٣٥).

<<  <   >  >>