للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَذَلِكَ كُلُّهُ نَجِسٌ. أَيَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ؟ فَإِنْ قَالَ: لَا. قِيلَ: فَالْغُسْلُ إنْ كَانَ إنَّمَا يَجِبُ مِنْ نَجَاسَةٍ كَانَ هَذَا أَوْلَى أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ مَرَّاتٍ وَمَرَّاتٍ مِنْ الَّذِي غَيَّبَهُ فِي حَلَالٍ نَظِيفٍ، وَلَوْ كَانَ يَكُونُ لِقَذَرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ كَانَ الْخَلَاءُ وَالْبَوْلُ أَقْذَرَ مِنْهُ، ثُمَّ لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِ غُسْلُ مَوْضِعِهِمَا الَّذِي خَرَجَا مِنْهُ، وَيَكْفِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَسْحُ بِالْحِجَارَةِ (١).

والراجح: ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة من أن المني طاهر؛ لأن عائشة كانت تحك المني من ثوب رسول الله ، ولو كان نجسًا لما جاز له الصلاة فيه، وصح عن ابن عباس ﴿أنه قال: إنه بمنزلة المخاط. والمخاط طاهر، فدل ذلك على طهارة المني. ودل على ذلك أن المني مبتدأ خلق بني آدم والأنبياء والرسل، فهل يليق أن يكون أصل هؤلاء نجسًا؟ والله يقول: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: ٧٠].

قال الشافعي: بَدَأَ الله ﷿ خَلْقَ آدَمَ مِنْ مَاءٍ وَطِينٍ وَجَعَلَهُمَا مَعًا طَهَارَةً. وَبَدَأَ خَلْقَ وَلَدِهِ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، فَكَانَ فِي ابْتِدَائِهِ خَلْقَ آدَمَ مِنْ الطَّهَارَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا الطَّهَارَةُ دَلَالَةَ أَنْ لَا يَبْدَأَ خَلْقُ غَيْرِهِ إلَّا مِنْ طَاهِرٍ لَا مِنْ نَجِسٍ.

وقال ابن القيم: والله تعالى أحكمُ من أن يجعل مَحَالَّ وحيه ورسالاته وقربه مبادئهم نجسة فهو أكرم من ذلك، وأيضًا فإن الله تعالى أخبر عن هذا الماء وكرر الخبر عنه في القرآن ووصفه مرة بعد مرة وأخبر أنه دافق يخرج من بين الصُّلب والترائب وأنه استودعه في قرار مكين، ولم يكن الله تعالى ليكرر ذكر شيء كالعَذِرة والبول ويعيده ويبديه ويخبر بحفظه في قرار مكين ويصفه بأحسن صفاته من الدفق وغيره، ولم يصفه بالمهانة إلا لإظهار قدرته البالغة أنه خلق من هذا الماء الضعيف هذا البشر القوي السَّوِي، فالمهين ههنا الضعيف ليس هو النجس الخبيث، وأيضًا فلو كان المني نجسًا وكل نجس خبيث لما جعله الله تعالى مبدأ خلق الطيبين من عباده والطيبات؛ ولهذا لا يتكون من البول والغائط طيب، فلقد أبعد النجعة مَنْ جعل أصول بني آدم كالبول والغائط في الخبث والنجاسة. والناس إذا سَبُّوا الرجل قالوا: (أصله خبيث) و (هو خبيث الأصل) (٢).


(١) «الأم» ١/ ٥٦).
(٢) «بدائع الفوائد» (٣/ ٦٤٠).

<<  <   >  >>