والظاهر أنهما كانا في المدينة، فهما غير مسافِرَيْن، والكُتَّاب في المدينة ايضاً كُثُر، فدلّ على أنه لا يشترط لصحة الرهن أيٌّ من هذين الأمرين.
وأجاب العلماء عن حكمة ذكر السفر وعدم الكاتب في الآية: بأنه بيان للغالب في واقع الأمر، إذ الغالب أن يحتاج إلى الارتهان في السفر، الذي كثيراً ما يُعدم فيه الشهود ويفتقد الكاتب، لاسيما في تلك الأزمان التي كانت فيها القراءة والكتابة قليلة، وذلك من اسلوب الكلام العربي الذي جاء القرآن على ارقى مستوى منه.
[حكم الرهن]
ظاهر الآية التي تدل على مشروعيته ان ذلك واجب، اذ قالت:"فرهان مقبوضة" وهذه صيغة من صَيِغ الأمر، إذ المعنى فليكن منكم رهان ... ، والأمر للوجوب، ولكن العلماء اتفقوا على أن الرهن ليس بواجب، وأنه أمر جائز، للمكلّف ان يفعله وان لا يفعله، لأنه شرع لتوثيق الحق، وللانسان ان يوثّق حقه وأن لا يوثقه، وقد أكد معنى الجواز قوله تعالى في الآية:"فإن أمَن بعضُكم بعضاً فليؤدِّ الذي اؤتمن امانته": أي فليكن المدين المؤتمن على الدَّيْن دون توثق اهلاً لهذا الائتمان، وليؤدِّ الأمانة دون اساءة، وواضح ان الائتمان لا يكون إلا إذا لم يكن ارتهان، لأن طلب الارتهان دليل الشك في الأمانة.
وقال العلماء ايضاً: إن الرهن بدل عن الكتابة، فيأخذ حكمها، والكتابة ليست واجبة، بدليل قوله تعالى:"ولا تَسْأمو ان تكتبوه صغيراً او كبيراً إلى أجله ذلكم أقسطُ عند الله وأقومُ للشهادة وأدني ألاّترتابوا " أي لا تملّوا من كتابة الدَّيْن قلّ أو كثر، فإن كتابته أقرب إلى العدل وعدم ضياع الحقوق، واسهل لإقامة الشهادة عند الاختلاف، وابعد عن الشك في قدر الدَّيْن أو صفته أو اجله.
قالوا: هذه المعاني تدل على ان الامر بالكتابة أمر إرشاد وتوجيه، وليس امر إيجاب وتحتيم.
على أننا نقول: إذا لم تكن الكتابة أو الرهن واجباً، فذاك لا يعني ان نتساهل في الأمر، ثم يجرّ بعضنا بعضاً الى دُور القضاء، او يتخذ ذلك بعض من رق دينهم ذريعة الى أكل اموال الناس بالباطل، فأقل ما قاله العلماء انه امر ارشاد وذلك