ولعلك تسأل: فما الحكمة التي قامت عليها مشروعية قبول الكتابيين على حالهم، مع أخذ الجزية منهم؟ وهلا كان سائر الكفار مثلهم؟ والجواب أن التفريق بين هاتين الطائفتين قائم على حقيقتين اثنتين:
الحقيقة الأولي: ومفادها أن الكتابي يشترك مع المسلمين في إيمانه بالله والنبيين، وإن لم يؤمن بوحدانية الله، ولا بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو آمن بنبوته إلي العرب فقط، فكان له سبيل سائغة للانضواء تحت نظام الحكم الإسلامي، كشرعة وقانون، وكان له من إيمانه هذا ما يجعله متمكناً من الانسجام مع نظامه، ثم إنه بعد ذلك سيجد مجالاً رحباً للنظر بإمعان وحرية فكرية مطلقة في حقيقة الإسلام وواقعه، ولسوف يظهر له مع الزمن ـ إن كان يتمتع بحرية فكرية تامة ـ أن الإسلام دين حق لا مرية فيه. أما الجزية التي تؤخذ منه، فهي كما قلنا آنفاً: ليست إلا عوضاً عن الزكاة التي تؤخذ من أغنياء المسلمين، لتحقيق نفس الفائدة بواسطتها، وهي إعادتها على فقرائهم، ونهوض الدولة بالمسؤولية التامة تجاههم.
الحقيقة الثانية: أن بقية فئات الكفر لا تجمعهم مع المسلمين أي جامعة، ومن ثم فليس من سبيل لانضوائهم في نظام الحكم الإسلامي، ولتجاوبهم معه، وهم بعد ذلك ـ فيما يحملون من عقائد الجحود بالله، وإنكار الصانع جل جلاله ـ جراثيم ضارة فتاكة بالمجتمع الذي يحلون فيه، وهم في واقعهم هذا يشكلون شذوذ الإنسانية عن منهجها الفطري الطبيعي، فكان أمراً سليماً أن لا يقبل منهم إلا الإسلام.