ثم عدت إلى حلب وكانت سياحتي هذه قريباً من عشر سنين وأما في هذه المدة فكنت في أخذ وعطاء وبيع وشراء ثم إني بعد دخولي إلى حلب أحببت العزلة عن الناس وتركت البيع والشراء وسلكت طريق الذل والافتقار وغيرت الحلاس والجلاس والأنفاس وجاهدت نفسي وعاديتها بالجوع والسهر نحواً من سبع سنين فمنها نحواً من سنتين اقتصرت على أن أتناول في كل ستين ساعة كفاً من طحين أجعله حريرة وأحليه بلعقة من السعل وأفرغه في حلقي والكف من الطحين المذكور وزنة تقريباً خمسة عشر درهماً وباقي أيام السبع سنين كان أكلي أقل من القليل وكل ذلك بإشارة مشايخي رضوان الله عليهم أجمعين فصدق علي قول سيدي عمر بن الفارض قدس سره
ونفسي كانت قبل لوّامة متى ... أطعها عصت أو تعص كانت مطيعتي
فأوردتها ما الموت أيسر بعضه ... وأتعبتها كيما تكون مريحتي
فعادت ومهما حملته تحملت ... هـ مني وإن خففت عنها تأذت
فلما انقضت سنو المجاهدة القريبة من سبع سنين واستهلينا شهر شوال سنة ست وستين وألف ألقى الله تعالى في قلبي حب طلب العلم الظاهر فقرأت على المشايخ سنتين إلا شهراً وفتح الله تعالى علي من العلم ما فتح فتركت القراءة وشرعت في الاقراء فأقرأت بعض الطلبة وكان أكثر الطلبة يضحكون ويستهزؤن علي ويقولون نحن لنا عشر سنين نخدم العلم ولم نتجرأ فيأتي بعضهم إلى مجلس درسي مستهزئاً فوالله ما يقوم من ذلك المجلس إلا وقد تبدل انكاره بالاعتقاد وفي ثاني ذلك اليوم يأتي ويقرأ علي ويقول هذا الأمر من خوارق العادة وبقيت على ذلك سنة انتهى وكانت قراءته على جملة من العلماء الأفاضل وجلها على الشيخ أبي الوفاء العرضي صاحب طريق الهدى وكان سلوكه على الشيخ أحمد الحمصي المذكور فأقام المترجم خليفة بعده في المدرسة الأشرفية إلى أن توجه عليه تدريس مدرسة الحلوية وصار يدرس بها ويقيم الأذكار والأوراد وتوجه عليه الافتاء بحلب وكان يفتي على مذهب الامامين أبي حنيفة والشافعي وله من التآليف السير والسلوك إلى ملك الملوك واختصر السراجية وشرحه وله رسالة في المنطق وشرح على الجزائرية في التوحيد وله غير ذلك من التآليف والفوائد وكانت وفاته سنة تسع ومائة وألف ودفن بين قبور الصالحين خارج باب المقام بحلب رحمه الله تعالى.
[قاسم البكرجي]
ابن محمد المعروف بالبكرجي الحنفي الحلبي أحد العلماء الأفاضل الأديب الألمعي اللوذعي البارع الأريب حاوي فنون العلوم والماهر بالأدب منثور أو منظوم ولد بحلب وقرأ