والذي أقول طالباً الإنصاف من نقاد الفحول: أن الوجوه التي تخطر بالأوهام باعثة على عدم الاعتماد عليه (في الأصل: "إليه"، والصواب:"عليه") كلها غير مقبولة عند الأعلام، بل له ترجيح على الموطّأ برواية يحيى، وتفضيل علية، لوجوه مقبولة عند أولي الإفهام.
الأول: أن يحيى الأندلسي إنما سمع الموطّأ بتمامه من بعض تلامذة مالك، وأما مالك فلم يسمعه عنه بتمامه، بل بقي قدر منه، وأما محمد فقد سمع منه بتمامه كما مرّ فيما مر، ومن المعلوم أن سماع الكل من مثل هذا الشيخ بلا واسطة أرجح من سماعه بواسطة.
الثاني: أنه قد مرّ أن يحيى الأندلسي حضر عند مالك في سنة وفاته، وكان حاضراً في تجهيزه، وأن محمداً لازمه ثلاث سنين من حياته ومن المعلوم أن رواية طويل الصحبة أقوى من رواية قليل الملازمة.
الثالث: أن موطّأ يحيى اشتمل كثيراً على ذكر المسائل الفقهية، واجتهادات الإمام مالك المرضية، وكثير من التراجم ليس فيه إلاّ ذكر اجتهاده واستنباطه، من دون إيراد خبر، ولا أثر، بخلاف موطأ محمد، فإنه ليست فيه ترجمة باب (في الأصل:"الباب"، والصواب:"باب") خالية عن رواية مطابقة لعنوان الباب، موقوفة كانت أو مرفوعة، ومن المعلوم أن الكتاب المشتمل على نفس الأحاديث من غير اختلاط الرأي أفضل من المخلوط بالرأي.
الرابع: أن موطّأ يحيى اشتمل على الأحاديث المروية من طريق مالك لا غيره، وموطّأ محمد مع اشتماله عليه مشتمل على الأخبار المروية من شيوخ أخر غيره، ومن المعلوم أن المشتمل على الزيادة أفضل من العاري عن هذه الفائدة.
الخامس: وهو بالنسبة إلى الحنفية خاصةً، أن موطّأ يحيى مشتمل كثيراً على اجتهاد مالك المخالفة لآراء أبي حنيفة وأصحابه، وعلى الأحاديث التي لم يعمل بها أبو حنيفة وأتباعهم بادعاء نسخ، أو إجماع على خلافه أو إظهار خلل في السند، أو أرجحيّة غيره، وغير ذلك من الوجوه التي ظهرت لهم، فيتحير الناظر فيها ويبعث