للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"أيها الناس: إنا قد أصبحنا في دهر عنود١، وزمن شديد٢ يعد فيه المحسن مسيئا، ويزداد فيه الظالم عتوا، لا ننتفع بما علمناه، ولا نسأل عما جهلناه، ولا نتخوف قارعة٣ حتى تحل بنا؛ فالناس على أربعة أصناف: منهم من لا يمنعه من الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه، وكلال حده، ونضيض وقره٤ ومنهم المصلت٥ لسيفه، المجلب بخيله ورجله، المعلن بشره، قد أشرط نفسه، وأوبق دينه، لحطام ينتهزه٦، أو مقتب٧ يقوده، أو منبر يقرعه٨، ولبئس المتجر أن تراهما لنفسك ثمنا، ومما لك عند الله عوضا، ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه، وقارب من خطوه، وشمر من ثوبه، وزخرف نفسه للأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة للمعصية، ومنهم من قد أقعده عن طلب الملك ضئولة نفسه، وانقطاع سببه، فقصرت به الحال عن أمله. فتحلى باسم القناعة، وتزين بلباس الزهاد، وليس من ذلك في مراح ولا مغدى، وبقى رجال غض أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريد نافر، وخائف منقمع٩، وساكت مكعوم١٠، وداع مخلص، وموجع ثكلان، قد أخملتهم التقية١١، وشملتهم الذلة، فهم بحر أجاج١٢، أفواههم ضامزة١٣، وقلوبهم قرحة، قد وعظوا حتى ملوا، وقهروا حتى ذلوا، وقتلوا


١ جائر. من عند عن الطريق كنصر وسمع وكرم عنودا: إذا مال.
٢ وفي نهج البلاغة: وزمن كنود وهو الكفور.
٣ الداهية التي تقرع أي تصيب.
٤ أي قلة ماله.
٥ أصلت السيف: سله.
٦ هيأها وأعدها "من الشرط "محركة" وهو العلامة" أي هيأها للفساد في الأرض. وأوبقه: أهلكه. والحطام: المال. وأصله ما تكسر من اليبيس.
٧ المقنب من الخيل: بين الثلاثين إلى الأربعين أو زهاء ثلثمائة.
٨ يعلوه.
٩ مقهور.
١٠ من كعم البعير كمنع: شد فاه لئلا يعض أو يأكل، وفي البيان والتبيين معكوم، من عكم المتاع يعكمه: شده بثوب.
١١ التقية: المداراة.
١٢ الأجاج: الملح.
١٣ ساكتة من ضمز كنصر وضرب: سكت ولم يتكلم. والبعير أمسك جرته في فيه ولم يجتر.

<<  <  ج: ص:  >  >>