للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ظهرت، ولا لأي هفوة حضرت؛ ولكني كرهت شمائلها، فقطعتُ عني حبائلها، فقال معاوية: وأي شمائلها يا أبا الأسود كرهتَ؟ قال: يا أمير المؤمنين: إنك مهيجها علي بجواب عتيد١، ولسان شديد، فقال معاوية: لا بد لك من محاورتها، فارددْ عليها قولها عند مراجعتها، فقال أبو الأسود: "يا أمير المؤمنين، إنها كثيرة الصخب، دائمة الذرب٢، مهينة للأهل، مؤذية للبعل، مسيئة إلى الجار، مظهرة للعار، إن رأت خيرًا كتمته، وإن رأت شرًّا أذاعته"، قالت: "والله لولا مكان أمير المؤمنين، وحضور من حضره من المسلمين، لرددت عليك بوادر كلامك، بنوافذ أقرع بها كل سهامك٣، وإن كان لا يجمل بالمرأة الحرة أن تشتم بعلًا، ولا أن تظهر لأحد جهلًا"، فقال معاوية: عزمت عليك لما أجبته، فقالت: "يا أمير المؤمنين، ما علمته إلا سئولًا جهولًا، ملحًا بخيلًا٤، إن قال فشرُّ قائل، وإن سكتَ فذو دغائل٥، ليثٌ حين يأمن، وثعلبٌ حين يخاف، شحيحٌ حين يضاف٦، إن ذكر الجودُ انقمعَ٧، لما يعرِف من قِصَرِ رشائه٨، ولؤم آبائه، ضيفُه جائعٌ، وجارُه ضائعٌ، لا يحفظُ جارًا ولا يحمى ذمارًا، ولا يدرك نارًا، أكرم الناس عليه من أهانَه، وأهونهم عليه من أكرمَه"، فقال معاوية: سبحان الله لما تأتي به هذه المرأة من السجع! فقال


١ حاضر مهيأ.
٢ الصخب: شدة الصوت، والذب: حدة اللسان وبذاءته.
٣ البوادر: جمع بادرة، وهي ما يبدو من حدتك في الغضب من قول أو فعل، بنوافذ أي بحجج نافذة ماضية، وكَلَّ السيفُ وغيرُه فهو كَلٌّ وكليلٌ: لم يقطع.
٤ وكان أبو الأسود معروفًا بالبخل.
ومن طريف ما يروى عنه أن رجلًا قال له: "أنت والله ظرف لفظ، وظرف علم، ووعاء حل، غير أنك بخيل" فقال: "وما خير ظرف لا يمسك ما فيه؟ " وسلم عليه أعرابي يومًا، فقال أبو الأسود: كلمة مقولة؛ فقال له: أتأذن في الدخول؟ قال: وراءك أوسع لك، قال: فهل عندك شيء؟ قال: نعم، قال: أطعمني، قال: عيالي أحق منك، قال: ما رأيت ألأم منك! قال: نسيت نفسك. "أمال المرتضى ١: ٢١٤".
٥ دغائل: جمع دغيلة كسفينة. والدغيلة والدغل بالتحريك: دخل في الأمر مفسد.
٦ ضافه يضيفه: نزل عليه ضيفًا.
٧ انقمع: دخل البيت مستخفيًا.
٨ الرشاء في الأصل الحبل.

<<  <  ج: ص:  >  >>