للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقال: ظِئْر١ أمير المؤمنين بالباب، في حالة تَقْلِب شمانة الحاسد، إلى شفقة أم الواحد؛ فقال الرشيد: ويحك يا عبد الملك! أو ساعية؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين حافية. قال: أدخلها يا عبد الملك، فرب كبد غَذَّتها، وكُرْبة فرَّجتها، وعورة سترتها، فدخلت، فلما نظر الرشيد إليها داخلة محتفية، قام محتفيا حتى تلقَّاها بين عَمَد المجلس وأكبَّ على تقبيل رأسها، ومواضع ثَدْييها، ثم أجلسها معه، فقالت: يا أمير المؤمنين أَيَعْدُو علينا الزمان، ويجفونا خوفا لك الأعوانُ، ويُحْرِدُك٢ بنا البهتان، وقد ربَّيتك في حجري، وأخذت برضاعك الأمان من عدوِّي ودهري؟ فقال لها: وما ذلك يا أم الرشيد، قالت: ظئرك يحيى، وأبوك بعد أبيك، ولا أصفه بأكثر مما عرَفه به أمير المؤمنين، من نصيحته، وإشفاقه عليه، وتعرُّضه للحتف في شأن موسى أخيه٣، قال لها: يا أم الرشيد، أمر سبق، وقضاء حمَّ٤، وغضب من الله نفَذَ، قالت: يا أمير المؤمنين {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} ٥ قال: صدقت فهذا مما لم يَمْحُه الله، فقالت: الغيب محجوب عن النبيين، فكيف عنك يا أمير المؤمنين؟ فأطرق الرشيد مليًّا، ثم قال:


١ الظئر: العاطفة على ولد غيرها، المرضعة له، في الناس وغيرهم، للذكر وللأنثى.
٢ يغضبك.
٣ قدمنا أن الهادي كان اعتزم خلع أخيه الرشيد من ولاية العهد، واستخلاف ابنه جعفر، وقد سعى إلى الهادي بيحيى بن خالد، وأنه يفسد عليه أخاه الرشيد، فحبسه وهمَّ بقتله. ويروى أنه قال للهادي في خلع الرشيد لمَّا كلمه فيه: "يا أمير المؤمنين، إنك إن حملت الناس على نكث الأيمان، هانت عليهم أيمانهم، وإن تركتهم على بيعة أخيك، ثم بايعت لجعفر من بعده كان ذلك أوكد لبيعته" فقال: صدقت ونصحت، ولي في هذا تدبير، ولما أمر بحبسه رفع إليه يحيى رقعة: إن عندي نصيحة، فدعا به، فقال: يا أمير المؤمنين، أخلني، فأخلاه، فقال: "يا أمير المؤمنين، أرأيت إن كان الأمر -أسأل الله إلا نبلغه، وأن يقدمنا قبله- أتظن أن الناس يسلمون الخلافة لجعفر، وهو لم يبلغ الحلم، ويرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم؟ قال: والله ما أظن ذلك، قال: يا أمير المؤمنين، أفتأمن أن يسموا إليها أهلك، وجلتهم مثل فلان وفلان، ويطمع فيها غيرهم، فتخرج من ولد أبيك؟ فقال له: نبهتني يا يحيى" وقال له: لو أن هذا الأمر لم يعقد لأخيك؟ أما كان ينبغي أن تعقده له؟ فكيف بأن تحله عنه، وقد عقده المهدي له؟ ولكن أرى أن تقر هذا الأمر يا أمير المؤمنين على حاله، فإذا بلغ جعفر وبلغ الله به، أتيته بالرشيد فخلع نفسه، وكان أول من يبايعه ويعطيه صفقة يده، قيل فقبل الهادي قوله ورأيه وأمر بإطلاقه.
٤ حم: قدر.
٥ أم الكتاب: أصله، أو اللوح المحفوظ.

<<  <  ج: ص:  >  >>