للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مكثر التشكي ممن لا يقدر عليه لوالده الأمير عبد الرحمن، فطال ذلك على الأمير، فأمر ثِقَةً من ثقاته أن يبني بجبل منقطع عن العمران بناء يُسْكِن فيه ابنه، وألا يدع أحدًا من أصحابه يزوره، فلما استقر المنذر في ذلك المكان، وبقي وحده، ونظر إلى ما سُلِبَه من الملك، ضَجِر وقال للثقة: عسى أن يصلني غِلماني وأصحابي آنَسُ بهم! فقال له: إن الأمير أمر ألا يصلك أحد، وأن تبقى وحدك، لتستريح مما يرفع لك أصحابك من الوشاية، فعلم أن الأمير قصد بذلك محْنَته وتأديبه، فكتب إليه يشكو استيحاشه١ بمكانه، فلما وقف الأمير على رقعته، وعلم أن الأدب بلغ به حَقَّه استدعاه، فقال له:

"وصلت رقعتك، تشكو ما أصابك من توحُّش الانفراد، في الموضع، وترغب أن تأْنَسَ بخَوَلك٢ وعبيدك وأصحابك، وإن كان لك ذنب يترتب عليه أن تطول سكنك في ذلك المكان، وما فعلت ذلك عقابًا لك، وإنما رأيناك تُكثر الضَجَر والتشكِّي من القال والقِيل، فأردنا راحتك بأن نَحْجُب عنك سماع كلام من يرفع لك ويَنِمُّ، حتى تستريح منهم".

فقال له: "سماع ما كنت أضجَرُ منه، وأخفُّ عليَّ من التوحُّد والتوحُّش، والتخلِّي مما أنا فيه من الرفاهية والأمر والنهي".

فقال له: "فَإِذْ قد عرفت وتأدَّبت، فارجع إلى ما اعتدته، وعَوِّل على أن تسمع كأنك لم تسمع، وترى كأنك لم تر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو تكاشفتم ما تدافنتم"، واعلم أنك أقرب الناس إليَّ، وأحبهم فيَّ، وبعد هذا فما يخلو صدرك في وقت من الأوقات عن إنكارٍ عليّ، وسُخْط لما أفعله في جانبك، أو جانب غيرك،


١ ونص الكتاب: "إني قد توحشت في هذا الموضع توحشًا ما عليه من مزيد، وعدمت فيه من كنت آنس إليه، وأصبحت مسلوب العز، فقيد الأمر والنهي، فإن كان ذلك عقابًا لذنب كبير ارتكبته، وعلمه مولاي ولم أعلمه، فإني صابر على تأديبه، ضارع إليه في عفوه وصفحه.
وإن أمير المؤمنين وفعله ... لكالدهر، لا عار بما فعل الدهر
٢ الخول: مثل الخدم والحشم وزنا ومعنى.

<<  <  ج: ص:  >  >>