للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كيف ترى حالك معي؟ فقال: "فوق قدري، ودون قدرك١"، فأطرق المنصور كالغضبان، فانْسَلَّ الرَّمادي وخرج وقد نَدِم على ما بدر منه، وجعل يقول: أخطأتُ! لا والله، ما يفلح مع الملوك من يعاملهم بالحق، ما كان ضَرَّنِي لو قلت له: إني بلغت السماء، وتمنطقت بالجوزاء! وأنشد:

متى يأتِ هذا الموت لا يُلْفِ حاجة ... لنفسي إلا قد قضيتُ قضاءها

وكان في المجلس من يحسُده على مكانه من المنصور، فوجد فُرصة فقال:

"وصل الله لمولانا الظفر والسعد، وإن هذا الصنف صنف زور وهَذَيان، لا يشكرون نعمة، ولا يرعَون إلًّا٢ ولا ذمةً، كلاب من غَلَب، وأصحاب من أخْصَبَ، وأعداء من أَجْدَب، وحسبك منهم أن الله جل جلاله يقول فيهم: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} والابتعاد منهم أولى من الاقتراب، وقد قيل فيهم: ما ظنك بقوم الصدق يستحسن إلًّا منهم؟ ".

فرفع المنصور رأسه -وكان محامي أهل الأدب والشعر- وقد اسودَّ وجهه، وظهر فيه الغضب المُفْرِط، ثم قال:

"ما بال أقوام يُشِيرُون في شيء لم يُسْتَشَارُوا فيه، ويُسِيئُون الأدب بالحكم فيما لا يُدْرُون، أيرضي أم يُسْخِط؟ وأنت أيها المبتعِث للشر دون أن يٌبْعَث، قد علمنا غرضَك، في أهل الأدب والشعر عامَّةً، وحسَدك لهم؛ لأن الناس كما قال القائل:


١ يريد "ودون ما ينبغي أن يعطيه مثلك لمثلي".
٢ الإل: العهد.

<<  <  ج: ص:  >  >>