للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من رأى الناس له فضـ ... ـلا عليهم حَسَدُوه

وعَرَفنا غرضك في هذا الرجل خاصة، ولسنا إن شاء الله نبلِّغ أحدًا غرضه في أحد، ولو بلغناكم بَلَّغنا في جانبكم، وإنك ضربت في حديد بارد١، وأخطأتَ وجه الصواب، فزدت بذلك احتقارًا وصغارًا، وإني ما أطرقت من كلام الرَّمادي إنكارًا عليه، بل رأيت كلامًا يجِلّ عن الأقدار الجليلة، وتعجَّبْتُ من تهدِّيه له بسرعة، واستنباطه له على قلة من الإحسان الغامر، ما لا يستنبطه غيره بالكثير، والله لو حكمت في بيوت الأموال لرأيت أنها ترجح ما تكلَّم به قلبه، وذَرَّة. وإياكم أن يعود أحد منكم إلى الكلام في شخص، قبل أن يؤخذ معه فيه، ولا تحكموا علينا في أوليائنا، ولو أبصرتم منا التغير عليهم، فإننا لا نتغيَّر عليهم بُغْضًا لهم، وانحرافًا عنهم، بل تأديبًا وإنكارًا، فإنا مَنْ نريد إبعاده لم نظهر له التغيُّر، بل ننبذه مرة واحدة، فإن التغيُّر إنما يكون لمن يُرَاد استبقاؤه، ولو كنت ماثل السمع لكل أحد منكم في صاحبه؛ لتفرقتم في أيدي سَبَا٢، وجُونِبْتُ أنا مجانبة الأجْرب، وإني قد أَطْلَعْتكم على ما في ضميري، فلا تعدلوا عن مَرْضاتي، فتجنَّبوا سخطي بما جنَّبتموه على أنفسكم".

ثم أمر أن يُرَدَّ الرَّمَادي، وقال له: أَعِدْ عليّ كلامك، فارتاع، فقال: الأمرُ على خلاف ما قدَّرتَ، والثوابُ أولى بكلامك من العقاب، فسَكن لتأنيسه، وأعاد ما تكلم به.

فقال المنصور: "بلغَنا أن النعمان بن المُنْذِر حَشَا فَمَ النابغة بالدرُّ، لكلامٍ


١ من أمثال العرب: "تضرب في حديد بارد" وهو مثل يضرب لمن طمع في غير مطمع.
٢ من أمثالهم أيضًا: "ذهبوا أيدي سبا، وتفرقوا أيدي سبا، وأيادي سبا، واليد: الطريق أي فرقتهم طرقهم التي سلكوها كما تفرق أهل سبأ في مذاهب مختلفة ضرب المثل بهم؛ لأنه لما غرق مكانهم، وذهبت جناتهم، تبددوا في البلاد -انظر القصة في الجزء الأول صفحة ١٠٨- وقد بنوا أيدي سبا، وأيادي سبا على السكون لسكون مركبا تركيب خمسة عشر.

<<  <  ج: ص:  >  >>