للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بعد أُمَّته١، أسِفْتُ لما أضعتُ، وندمْتُ بعد الفِطَام على ما رَضَعْتُ، وتأكد وجوب نصحي لمن لزمني رَعْيُة، وتعلَّق بعيني سَعْيُه، وأمَّلتُ أن تتعدَّى إليّ ثمرة استقامته، وأنا رهين فوات، وفي برزخ أموات، ويأمن العثور في الطريق التي اقتضت عِثارى، إن سلك -وعسى ألا يكون ذلك- على آثاري، فقلت أخاطب الثلاثة الولد، وثمرات الخَلَد٢ بعد الضَّراعة إلى الله تعالى في توفيقهم، وإيضاح طريقهم، وجمع تفريقهم، وأن يمُنَّ عليّ منهم بحسن الخَلَف، والتلافي من قبل التَّلف، وأن يرزق خلفهم التمسك بهدي السلف، فهو وليّ ذلك والهادي إلى خير المسالك: اعلموا هداكم الله تعالى الذي بأنواره تهتدي الضُّلَّال، وبرضاه تُرْفَع الأغلال، وبالتماس قُرْبِه يحصل الكمال، وإذا ذهب المال، وأخلَفَتِ الآمال، وتبرَّأَتْ من يمينها الشِّمال، أني مُودِّعكم وإن سَالَمني الرَّدَى، ومُفَارِقُكم وإن طال المَدَى، وما عدا ممَّا بدا، فكيف وأدوات السَّفر تُجْمَع، ومنادي الرحيل يسمع، ولا أقلَّ للحبيب المودِّع، من وصية محتضر، وعجالة مقتصر، ورَتِيمَة٣ تعقد في خِنْصَر، ونصيحة تكون نَشِيدَة واعٍ مُبْصِر، تتكفَّل لكم بحسن العواقب من بعدي، وتوضِّح لكم من الشفقة والحنوّ قَصْدي، حسبما تضمن وعد الله من قبل وعدي، فهي أَرَبُكم الذي لا يتغيَّر وقفه، ولا ينالكم المكروه ما رفَّ عليكم سَقْفُه، وكأنِّي بشبابكم قد شاخ، وبراحلكم قد أناخ، وبناشِطِكم قد كَسِل، واستبدل الصَّابَ٤ من العسل، ونُصُول٥ الشيب تروِّع بِأَسَل، لا بل السَّام٦ من كل حدب قد نَسَل، والمعاد


١ الأمة هنا: الحين، اقتبسه من قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} .
٢ الخلد: القلب والنفس.
٣ الرتيمة: خيط يعقد في الأصبع للتذكير.
٤ الصاب: عصارة شجر مر.
٥ النصول جمع نصل: وهو حديدة الرمح والسيف. والأسل: الرماح.
٦ السام: الموت: والحدب: ما ارتفع من الأرض، ونسل كضرب: أسرع والمعاد: المرجع.

<<  <  ج: ص:  >  >>