للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اللحْدُ ولا تَسَلْ، فبالأمس كنتم فراخ حِجْر١، واليوم أبناء عسكر مَجْر، وغدا شيوخ مَضْيَعَةٍ وهَجْر، والقبورة فاغرة٢، والنفوس عن المألوف صاغرة، والدنيا بأهلها ساخرة، والأُولى تَعْقُبُها الآخرة، والحازم من لم يَتَّعِظ به في أمر، وقال: "بيدي لا بيد عمرو٣"، فاقتنوها من وصيَّة، ومَرَام٤ في النصح قَصِيَّة، وخُصُّوا بها أولادكم إذا عَقَلوا، ليجدوا زادها إذا انتقلوا، وحسبي وحسبكم الله الذي لم يخلق الخلق هَمَلا، ولكن ليبْلُوَهُم أيهم أحسن عملا، ولا رَضِيَ الدنيا منزلا، ولا لَطَفَ بمن أصبح عن فئة الخير منعزلا، ولتُلَقَّنُوا تلقينا وتعلموا علما يقينا، وأنكم لن تجدوا بعد أن أنفرِدَ بذنبي، ويفترش التراب جنبي، ويَسُحَّ انسكابي، وتهَرْوِل عن المصلَّى ركابي، أحرص مني على سعادةٍ إليكم تُجْلَب، أو غاية كمال بسببكم تُرْتَاد وتُطْلَب، حتى لا يكون في الدين والدنيا أَوْرَف٥ منكم ظلا، ولا أشرف محلا، ولا أَغْبَطَ نَهْلًا وعَلّا٦، وأقل ما يوجب ذلك عليكم أن تُصِيخوا٧ إلى قولي الآذان، وتستلمِحُوا


١ أي كالفراخ في حجر أمها وحضنها، والمجر: الكثير من كل شيء، وجيش مجر: كثير جدًّا.
٢ أي فاتحة أفواهها للموتى.
٣ هو مثل قالته الزباء ملكة الجزيرة، وذلك أنها كانت دعت جذيمة الأبرش ملك ما على شاطئ الفرات إلى زواجها. فلما استقر عندها قتلته ثأرًا بأبيها -وكان جذيمة قد قتله- فاحتال مولاه قصير الثأر منها، نجدع أنفه وأثر آثارا بظهره، ثم خرج إلى الزباء، وأظهر أن عمرو بن عدي -ابن أخت جذيمة- فعل ذلك به، وأنه زعم أنه مكر بخاله جذيمة وغره من الزباء، فلما استرسلت إليه ووثقت به، زين لها أن تبعثه إلى العراق ليحمل إليها من طرائقها وثيابها وطيبها، وأنها ستصيب في ذلك أرباحًا عظامًا، فأذنت له وقدم العراق، وأتى الحيرة متنكرًا، وزوده عمرو بصنوف البز والأمتعة، ورجع إلى الزباء، فأعجبها ما رأت وسرها، وازدادت به ثقة، وجهزته ثانية، فسار حتى قدم على عمرو فجهزه وعاد إليها، ثم عاد الثالثة وجمع ثقات رجال عمرو، وحملهم في الغرائر على الجمال، وسار إلى الزباء، ودخلت الإبل المدينة وكانت الزباء قد حذرت عمرا، واتخذت نفقا إلى حصن لها في داخل مدينتها، وقالت: إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني -ودل قصير عمرو على باب النفق، فلما خرجت الرجال من الغرائر صاحوا بأهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح، وقام عمرو على باب النفق، وأقبلت الزباء تريد النفق، فأبصرت عمرا فعرفته بالصورة التي صورت لها -فمصت خاتمها وكان فيه السم، وقالت: "بيدي لا بيد عمرو" فذهبت مثلًا، وتلقاها عمرو فجللها بالسيف وقتلها، وأصاب ما أصاب من المدينة وأهلها، وانكفأ راجعًا إلى العراق.
٤ مرام جمع مرمى، وقضية بعيدة.
٥ ورف الظل: اتسع وطال وامتد.
٦ النهل: الشرب الأول، والعل والعلل: الشرب الثاني أو الشرب بعد الشرب تباعًا.
٧ أصاخ له استمع.

<<  <  ج: ص:  >  >>